روب ـ غرييه والقصة القصيرة… عندما تنظر العين بحيادية

حسن سرحان*

ليس آلان روب ـ غرييه قاصاً مواظباً على كتابة القصة القصيرة. هذا أمر لا يقبل جدالاً كثيراً ولا يحتمل نقاشاً طويلاً، لأنّه لم ينشر طيلة أكـــــثر من نصف قرن من العمل الابداعي إلا مجمــــــوعة قصصية واحدة عنوانها «لقطات» صدرت ســـــنة 1962 عن دار مينوي الباريسية.

احتوت هذه المجموعة على عشر قصص قصيرة بدأ روب – غرييه بنشرها في المجلات الفرنسية اعتباراً من عام 1954. رغم أهميتها الفنية وطبيعتها التجريبية الخالصة، بقيت هذه القصص الطليعية بلا ترجمة جامعة تنقل كامل نصوصها من الفرنسية إلى اللغة العربية مباشرة. صحيح أن قسماً قليلاً منها كان قد ترجم، لكن نقلاً عن الإنكليزية في الغالب، وليس عن اللغة الأصلية التي كتبت بها القصص، ما أفقدها جزءاً كبيراً من مزاياها وخصائصها اللغوية والفنية.

لا يقتصر عدم الاهتمام الذي عرفته هذه المجموعة القصصية على الترجمة، إنما شمل النقد أيضاً. لم يمنح دارسو مؤلفات روب- غرييه تلك النصوص العناية المناسبة مع كونها، بحسب آلان غوليه، الأساس الذي شيد عليه رائد الرواية الجديدة كل القوانين الفنية، التي ميّزت نتاجه السردي وحتى السينمائي، رغم قلة عدده.

شكلت هذه القصص القصيرة محطةً مهمةً في تاريخ التجديد والتجريب والاختلاف ومفارقة السائد. عندما يكتفي روب – غرييه بالتبشير بمشروعه التجديدي في التكنيك القصصي بمجموعة قصصية واحدة، تقوض المواضعات الفنية المتعارف عليها، فذلك مؤشر على أن الكتابة القليلة المتسمة بالكثافة والاقتصاد والدقة والبناء الفني المحكم يمكنها أن تفتح آفاق التجديد.

تجتمع في هذه المجموعة القصصية عدة تقنيات، وتتقاطع مسارات أسلوبية متباينة، لا تنسجم مع نفسها جمالياً إلا من حيث انتمائها لفن القصة التجريبية التي يكتبها مؤلف مشاكس، يركب رأسه شيطانُ التجريب وتتقمصه روح أدبية عبقرية مهووسة بتفضيل الإدراك الحسي والوصف والخيال والفانتازيا، على الواقعية التقليدية والحبكة والإثارة والتشويق. تؤطر قصصَ هذه المجموعة رؤيةٌ فنية اعتمدت، في نسقها العام، بنية سردية غاية في الدقة، محورها الأساسي إبراز حضور الأشياء والتأكيد على وجودها المستقل إزاء باقي مكونات عالم السرد. بطبيعة الحال، الأشياء حاضرة في الرواية والقصة منذ القدم، لكنها كانت دائما تابعة في وجودها للشخصية وتستمد منها مبرر حضورها داخل جو الحكاية. أعني أن الأشياء لا تُستدعى لذاتها وليست مهمة بنفسها، بل لأن الشخصية تحتاج إليها لتستكمل عناصر الإيهام بواقعيتها، وتعزز الانطباع بتماثلها مع عالم القارئ الخارجي. لم يكن «الشيء» في رواية وقصة القرن التاسع عشر الواقعية غير ديكور ثانوي يؤدي وظيفة محددة مسبقاً ينحصر فيها سبب استخدامه وتتقيد بها طبيعة دوره. لا تحظى الأشياء بالاهتمام والعناية في السرد الكلاسيكي إلا ساعةَ يريد الروائي أو القاص رسم المكان الذي تتواجد فيه الشخصية، وتزويد القارئ بفكرة عن مستواها الاجتماعي والكشف عن ميولها النفسية والذوقية، عن طريق ما تملك وما تحب أو تكره من أشياء.

أكيداً، ليس روب- غرييه أول من جذب الانتباه إلى حضور الأشياء المستقل في القصة أو الرواية، فقد سبقه إلى ذلك عديدون منهم جان بول سارتر وفرنسيس بونج، إضافة إلى السرياليين طبعاً. في كتابه «الانحياز إلى الأشياء» الصادر سنة 1942 الذي حوى مجموعة قصائد نثرية، يصف بونج أشياء من الحياة اليومية عادية جداً لا ينتبه إليها المرء في الغالب، رغم جمال حضورها وفرادته.

من جهته، منح سارتر «الشيء» المهمل مساحةً مناسبة من الاهتمام وقدراً كبيراً من الاستقلال في روايته «الغثيان» التي نشرها سنة 1939. غير أن الأشياء لم تكتسب حضوراً خالياً من كل تبعية، ولم تتحرر من ارتباطها بباقي عناصر السرد إلاّ مع روب-غرييه وزملائه من كتّاب الرواية الجديدة الذين رجّحوا، في خمسينيات القرن الماضي، كفة الأشياء على ما عداها، ما جعل رولان بارت يسمي ما يكتبونه بأدب الأشياء. هذا الميل جهة «الشيء» واضح في جميع قصص هذه المجموعة التي يقوم كل نص منها على اقتطاع حيز صغير وعادي للحظة زمنية قصيرة جداً تهيمن عليها حاسةُ النظر وتملؤها الأشياء. كما عليه الأمر في عموم مؤلفات روب-غرييه، هناك عين واحدة داخل هذه القصص تحتكر النظر، هي عين السارد ذات الحيادية التامة، المماثلة لتلك التي تتصف بها الكاميرا. تبحث العين/الكاميرا عن كل «شيء» يمكن لها أن تلتقط حضوره كي يصفه السارد أكثر من مرة بموضوعية كاملة، دون أن يسند إليه (أعني إلى الشيء) عمقاً أو رسالة أو وظيفة من أي نوع كانت. ما يميز أشياء روب-غرييه أنها لا تعرف الكلام ولا تجيد تمرير الرسائل، لأن الكاتب لا يبيح لشخصياته أن تُسقط عليها شحناتها الانفعالية. أشياء روب- غرييه لا تملك غير سمة واحدة: إنها «هنا» وفقط وليست «هنا» لكي توصل معنى ما أو تحيل إلى فكرة ما. من أجل أن يوفر للرائي فرصة السيطرة على حركة العين ويتيح لهذه الأخيرة إمكانية التجوال المستريح والمتكرر في فضاء المكان والإسهاب في وصف محتوياته القليلة، بنى روب-غرييه عالم قصصه الفني على اقتصاد شديد في كل مفردات القص. فقصصه لا تحوي شخصيات كثيرة وأمكنته ضيقة غالباً ولا تتعدى أن تكون، غرفة، صالة درس، جزءاً معزولاً من شاطئ لا يرتاده كثيرون، زنزانة سجن، مقهى أو بيتا مهجورا. ليس في هذه الأمكنة غير أشياء جامدة وقليلة لا تتفاعل مع بعضها، ولا مع الشخصيات التي تقاسمها الحيز، لكنها، أي الأشياء، هي التي تحدد شكل النص وتصيغ مساره السردي وتعيّن له صفة خطابه الجمالي.

يمكن أن نعد قصة «المانيكان» وهي أول نصوص هذه المجموعة نموذجاً ممثِّلاً للتكنيك الذي اتبعه روب -غرييه في باقي القصص. لا وجود، في هذا النص القصير المكتوب سنة 1954، لشخصيات حية مطلقاً باستثناء الراوي المتواجد داخل غرفة صغيرة لقياس الملابس. تحوي هذه الغرفة، إضافة إلى تمثال عرض الأزياء أو المانيكان، طاولة فوقها إبريق قهوة كما تضم خزانة ملابس ذات مرآة وموقداً توجد أعلاه مرآةٌ ثانية. أول ما ترينا إياه العين المحايدة، دورقَ قهوة موضوعاً على طاولة لها أربع قوائم يغطيها مفرش مرسوم عليه شكلٌ لا تستطيع العين أن تتبين ملامحه بوضوح في البداية، لأن إبريق القهوة يحجبه بصورة تكاد تكون تامة. كعادة روب – غرييه في إعطاء دور مميز لجزئية ما من المكان لتمارس دورا سرديا مهما، تطيل العين التوقف أمام مرآة مستطيلة كبيرة (تلك التي أعلى الموقد) تنعكس فيها بعض صور الأشياء الموجودة في الغرفة، التي من بينها مرآةُ خزانة الملابس. في هذه الأخيرة، تبدو، من جديد، الأشياء عينها التي ظهرت في المرآة الأولى بما فيها المانيكان. هكذا، تتجسد لهذا الأخير أكثر من صورة تُبرز كل واحدة منها جانباً لم يظهر في المرآة الأولى.
عن طريق هذه المرايا، يتضاعف الشيء الواحد وتتعدد زوايا رؤيته وتتداخل انعكاساته حتى يغدو من الصعب معرفة الصورة المنعكسة من أصلها. باستثناء فعل النظر، لا شيء آخر يحدث في الغرفة، لا حركة ولا صوت ولا حوار من أي نوع. ولأن العين لا تمل النظر، يعود بنا السارد، في السطر الأخير من القصة، إلى نقطة البداية عندما يخبرنا أن على الطاولة إبريقا للقهوة موضوعاً على صورة لبومةٍ ذات عينين كبيرتين ومخيفتين قليلاً. لكن الرسم، بسبب الإبريق الذي يحجبه عن الرؤية، لا يمكن أن يُشاهد بوضوح، ما يعني تمهيداً لاستئناف وصف الأشياء ذاتها. بعودته إلى جملة الاستهلال، يجعل النص من نهايته بدايةً ثانية لرحلة وصف أخرى ينثال فيها السرد من جديد كي يمنح العين فرصة التمتع مرة أخرى بالنظر إلى الأشياء. كما في كل نصوصه، لا يولد فعل القص عند روب -غرييه إلاّ من فعل النظر، لذا فإن أي محاولة لتشريح نص لهذا الكاتب يجب أن تمر حتما عبر دراسة الوصف الذي يُغرق فيه متلقيه. إذا ما تفاعل القارئ مع الوصف وتذوقه فإن النص نفسه، باعتباره إدراكا حسيا/بصرياً وجمالياً محضا، سيفك له شيفراته وسينفتح عليه بكل ألغازه، وإن بدت هذه الأخيرة عند مستوى القراءة الأولى مستغلقة ومبهمة. طبقاً لمفهوم روب-غرييه، ليس النص سوى صورة أو مجموعة معقدة من صور جامدة للعين أن تلتقطها بدون أي تسلسل زمني أو استمرارية زمنية، إذ لا وجود لمعنى مستمر عند روب-غرييه. بوصفها آلة إدراكية، فإن العين، في نصوص هذا الروائي والقاص، لا تنظر كي تحلل أو لتؤسس علائق داخل الزمن بينها وبين ما تراه، كما هو الحال في النصوص الكلاسيكية. يمثل هذا التشديد على حيادية حاسة النظر، حسب رأي رولان بارت، سلوكا تطهريا قصدياً غايته الوحيدة تحرير الأشياء من المعنى الذي منحه لها الإنسان على الدوام.

٭ ناقد وأكاديمي من العراق

Loading...