سينما: عن فيلم كارل ماركس الشاب the young karl marx

علي شاهين

هو يحكى عن فترة شباب أحد عجائب التاريخ المسماة كارل ماركس، المرحلة التى بدأ فيها ماركس التغريد خارج السرب الهيجلي، لقلب مثالية “مثاله” الأعلى فى الفلسفة ليسير على قدميه. وكيف اصطدم بالهيجلين، والاناركية، وألوان التيارات الفلسفية والسياسية آنذاك، ولقاء السحاب الذى جمعه مع برودون وانجلز، ومقالاته التى كُتبت بحبر من نار وأوراق من بارود، وصوته الصارخ فى مصانع أوروبا يكرز بالشبح الذي يحوم حول أوروبا.

ترى بكل ألم الفقر البشع الذى كان يرزح تحت نيره ماركس. واستداناته الدائمة لتغذية عقله بالكتب، وجسد أبناءه بالطعام. أجاد المخرج راؤول بيك الجمع بين الحديث عن ماركس العلّامة الفذ الأعجوبة، وماركس الإنسان / الأب / الزوج إلخ…

بشكل رائع وجيد جداً كثَّف عدسات كاميراته لجميع مظاهر الحياة اليومية التى عاشها الشاب مع زوجته، ورفيق دربه أنجلز. الديكور والتصوير تحفة، يقسم المشاهد عقب كلمة “النهاية” أنه كان يتصبب عرقاً من حرارة الأفران، وضجيج الآلآت. الشوارع القذرة، النائمون على الرصيف من البؤساء، والعاطلين، السواد المتشح به الجو من دخان المصانع، أطفال كأنهم قد خرجوا من الأجداث صِراعاً كأنهم إلى نُصب يوفدون !

باختصار؛ نجح المخرج بامتياز فى توصيل أجواء القارة العجوز حين كانت فتيّة سادية، فى مُفتتح القرن الـ19.

عُمال وجوههم يتشظى منها ألماً روح أبليس. سيدات لا يمتلكن من الأنوثة إلا ما يُستدل عليها بالملابس، فلا أثداء ولا مؤخرات ولا جمال، فقد أباد العمل خضرائهم وأحيا جيوب البرجوازيين. المخرج جَسَّد بحق ودون أى “تمثيل” عبارة أمليدا جارييت : وأنا اسأل علماء الاقتصاد السياسي وعلماء الأخلاق، هل أحصوا عدد من حُكم عليهم بمعانة البؤس، والشقاء، وتثبيط الهمة، والنمو المتأخرة، والجهل المفسد، والمصائب التى لا تقهر، والفقر المدقع، كل ذلك من أجل خلق ثرى واحد؟

لن يستمتع بالفيلم ـ كما هما مأمول من كل فن ـ سوى من ساح فى رياض الفلسفة، وإسهامات ماركس فى العلوم الاجتماعية، فهناك الكثير من النقاشات، والمحاورات، والإحالات، والسياقات التى عاشها وخاضها ماركس، وأسهم فيها، واستغنى عن بعضها. فلن يعيّها إلا من قرأ عنها وفيها.

لا أثر للموسيقى التصويرية، بالإضافة لاختيار المخرج ممثلان كبار السن لتمثيل فترة ” شباب” ماركس وانجلز، وهرولة فى الأحداث بنهاية الفيلم كانت أخطاء أعيبها على المخرج. لكن تبقى نهاية الفيلم ذكية جداً، فهى تطرح سؤال ـ وإن كان بشكل مُتعجّل ـ طرحه تلميذ ماركس فى روسيا: ما العمل؟.

قد رفض أصدق مُحلل لبنية رأس المال فكرة إعادة تدوير التاريخ لذاته، مؤكداً أن المأساة فى الكَرّة الثانية هى السمة الثابتة. لكن الفيلم هاهنا يُجيب على ماركس: ربما يعيد التاريخ نفسه لإنه لم يجد من يُجيب على اسألته، وقطعاً الرأسمالية ليست إجابة، كما أن المخرج ليس مُطالب بـ” مساهمة فى نقد الاقتصاد السياسي”. لكن المُخرج كان كصاحب “المساهمة”؛ أمين ودقيق فى عرض أزمة العصر المعاصر.

فيلم جميل جداً، يُجسد ما آمن به ميرلوبونتى : الفن هو التجسيد المناسب للرؤية، والرؤية شرط أساسي للوجود الإنساني.

Loading...