الأخيرةُ حُبِّيَ الأوَّل !

محمد بشكار

الصفحة الأخيرة أول مهمَّة صعْبة أُلْقِيتْ على عاتقي في بداية مشْواري الإعلامي، أيْ منذ أكثر من عشرين سنة بجريدة “العلم”، وقد أدركتُ مع تقادُم حميميَّة العلاقة بيننا، أن حِمْلها قد تطوَّر ليس فقط إلى حُلُمٍ بلْ إلى عناق يومي صارتْ معهُ هذه الأخيرة حُبِّيَ الأوَّل!

وكما أنَّ الصَّفحة الثقافية حِلْيةٌ تزْدانُ بِجمالها الجريدة، كذلك الشَّباب زينة كل الأعمار وذِرْوتها، وأذْكُرُ حين تولَّيْتُ مسؤوليتها فخُوراً، أني وجدتُ من سبقوني من المُؤسِّسين الرُّواد، وبالتحديد الأديبين عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي رحمهما الله، قد أوْسعوا من الأفق الثقافي لهذه الصفحة، ووسَمُوها تيمُّناً بترتيبها الأخير في الجريدة بـ (الأخيرة)، فجعلوها بهذا الإسم غير الخاضع لتجْنيسٍ صحفي، أكثر انشراحاً وانفتاحاً على أشكال إعلامية مُتعدِّدة حتى لا تكون حكْراً على الجنس الأدبي، وما ذلك إلا لأنَّ الثقافة في سِعتها الوثيقة الصِّلة بأنماط الفكر والحياة، تشْمُل كل الممارسات الإنسانية، فمن يستطيع أن يُجرِّد المرء أو المرأة من التفكير وهي تختار ما يُناسبُ ذوْقها من لباسٍ أو يُثيرْ؟

أضْحتْ الصفحة الثقافية أو (الأخيرة)، في نفْس قيمة الصفحة الأولى للجريدة التي تسْعى بتنوُّع منشوراتها لإغْراء القارىء من الواجهتين، ولا أحد من المتصفِّحين يستطيع نُكران أنهُ وقبْل أن ينْغمِس في قراءة ما بقلْبِها أو صفحاتها الداخلية، ينتقل بخِفَّة لا شعورية من أول الجريدة لآخرها ولو لإلقاء نظرة، كما لا يمكن ونحن نسْتكشف ما تقترحه دَفَّتَا الجريدة، القول ولَلْأُولى خيرٌ من الأخيرة !

لكأني نسيتُ نفسي فانفلتتْ تتسكَّع بحنينها في دروب الزمن الجميل، حين كان شبابُنا وهو ليس ببعيدٍ، لا يعزف على نفْس وتر شباب اليوم، حين كان شبابُنا في حاملاته الثقافية من ورقٍ ولكنه في تعطُّشه للمعرفة من حديد يستطيع أن يحمل الطائرات، وأصبح اليوم في مَحْمُولاته المعرفية أو الترفيهية من معْدنٍ هاتفاً وحاسوباً، ولستُ أقول ما أقول تفْضيلاً لجيلٍ على جيل، فقط أنبِّه إلى أن التَّطور التكنولوجي والرقمي لم يأْتِ لإعدام الصفحات الثقافية للجرائد، ولكنه أضاف لصيغتها الورقية نُسخة إلكترونية تخاطبُ كل الحواس، مقروءةً ومرئيَّةً ومسموعةً وقد تصبح مستقبلا مشْمومةً بأنفٍ طويل، ومثلما تُواكب روح العصر من حيث السرعة فلا نقرأ سوى عاجلٍ، تسْتجيبُ أيضا لنداءات القارئ الذي يستهلك في كل دقيقة سيلاً عارماً من المعلومات الثقافية، ويخْتلف المُبْحِر في هذا السَّيل بين موثِرٍ للأعماق في اختياره للمادة المقروءة التي تفضي به لأكثر من مَرْجعٍ، وبين مُكتَفٍ بالزَّبد فلا يستهلك إلا الفلِّين ليبقى طافياً على السطح !

هنا فقط تتَّضح عبقرية تسْمية الصفحة الثقافية بــ (الأخيرة)، وهو اسم استشرافي يُواكب أيضا بكوكبيَّته روح العصر التي تستدعي الانفتاح على أكثر من عالم ثقافي، نجوم الموضة والأزياء والسينما والرقص والمسرح، ثمرات المطابع، المواعيد الثقافية، التشكيل بمعارضه ومَزاداته محلِّياً ودوليا، ناهيك عن زاوية الرأي التي قد تكون ثابتة لأحد الكُتَّاب المشهود لقلمه بالشّهْرة، أو قد تكون زاوية بأصوات متعددة لأكثر من كاتب أو صحافي، وأذكر هنا دون أن أفرِّق بين مرحلة شبابي وبين الذين يعيشون اليوم ميْعة الشباب في كهولتي، أنِّي كنْتُ أتربَّص في كل أسبوع باليوم الذي يكتب فيه أحد الكُتاب الذي يُوافق تفكيره هواي الثقافي، فأقتني الجريدة لأتوارى خلف صفحاتها عن الأنظار، كطفل يزْدرد بنهمٍ حلْواه، حتى أكْمِلَ قراءة عمود هذا الكاتب الأشبه في رُكن الصفحة بسارية تُمسكُ البيت عن الوقوع، ولكن بسقفٍ مفتوح يحذوني للتَّطلُّع لأفكار وأساليب لا تخطر ببال أحد في أعمدة كُتَّابٍ آخرين، فأقرأ للسَّاخر والواقعي والفاضح، كما أتغلَّبُ على كسَلي لأفكَّ بالتأمُّل شِفْرةَ العمود الغامض والرمزي مُكْتشِفاً أنه أكثر من واضحْ!

ولأنِّي لستُ من الصِّنْف الذي تعْتريه العصبيَّة لجيلي، وأنتظر بعد أنْ تنتهي مُدَّتي على وجه الأرض نهاية العالم، فأنا مُوقنٌ أنَّ ثمة اليوم الكثير من الشباب يكْتنف نفْسَ هَوَسي لقراءة ما يُحِب بشغَف، ولا يأْلُو جُهدا في البحث عن البضاعة الثقافية التي تُوافق تطلُّعاته الفكرية، وأفظع ما قد يتسبَّبُ في كساد بعض الصفحات الثقافية، أنْ تنْغمس في نُخْبويتها فكأنَّها تُخاطب عقولا أعلى من تفكير المجتمع، أو تُضيِّق من شريحة مُخاطبيها بالتأدْلُج في لون سياسي، ذلك أن عدم الالتزام بمسافة الحِياد يجعل المادة المنشورة تصل بتوزيع الجريدة لكل المُدن دون أنْ تصل لأحد !

لا أبتعد عن نفْسي وأنا أتسكَّع في دروب الزمن الجميل، وأحتفظ بالشباب في كل مراحل العُمر وقد أُفسح للطِّفل أيضا أن يقْفز بلعبه من داخلي، وأعود للقول دون أن يَكِلَّ لساني إنَّ للجيل الجديد همومه التي لن يتحقَّق الترويج الثقافي إعلاميا إلا بفهْمها، ولكن للأسف ما زال سُوء الفهْم يُسبِّب جِراحاً بِخسائر فادحة، وكما يُمزِّق بين الأجيال يَحُول دون التعلُّمْ !

Loading...