بقلم -د/ خالد الإدريسي
تعتبر مهنة المحاماة من أهم المهن التي تقوم بادوار أساسية و محورية داخل الدولة و المجتمع سواء على المستوى الحقوقي أو التنموي ، و هي ليست مهنة تقدم خدمات و سلع مجردة مقابل مبلغ مالي فحسب كما هو الحال بالنسبة لباقي المهن الأخرى التي يغلب عليها الطابع المادي ، و لكنها أكثر من ذلك , لأنها رسالة إنسانية من بين أهم أهدافها المساهمة في تحقيق العدل و مناهضة الظلم و ترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان و الحريات العامة بمختلف تنوعاتها سواء كانت مدنية أو سياسية أو إقتصادية أو اجتماعية و ثقافية . و إذا كان هذا التصور هو المفروض و المفترض في مهنة النبلاء التي تتشكل من رجال و نساء دفاع وهبوا أنفسهم للمساهمة في إحقاق الحق و تحقيق العدل ، فإنه في الواقع يلاحظ أن نظرة المجتمع و الأحكام المسبقة للمواطنين و المواطنات المغاربة تخالف و تتعارض مع هذا الطابع الحقوقي و الرمزي لمهنة المحاماة ، بل إن الكثير منهم يصف المحامين أشخاصا و صفات و مؤسسات بأقدح النعوت و أخبث الأوصاف ، حتى ممن لم يتعامل مع أي محام طيلة حياته ، و لكنه استقى هذا الحكم المسبق من النظرة العامة لأغلب أفراد المجتمع الذي ترسخ في وعيهم الجمعي تلك النظرة السيئة السلبية عن المحاماة و المحامين ، و يمكن أن نستشف هذا الأمر أساسًا من المجال التلفزيوني و السينمائي ، إذ أن الأغلبية الساحقة من الأدوار التي تجسد دور المحامي ، يتم إبراز شخصيته على انه متلاعب و ماكر و لا يؤتمن جانبه . و بالتالي أصبح يلاحظ أن مهنة الدفاع التي تصول و تجول أمام القضاء و في مختلف المحاكم من أجل الدفاع عن المجتمع و المواطنين ، أصبحت في حاجة إلى محام و دفاع لكي يؤازرها أمام محكمة المجتمع التي تطبق قانون غير عادل أساسه الجهل و عدم الوعي و ترسخ الأحكام المسبقة التي لا تستند على أي أساس حقيقي وواقعي سليم .
و لذلك , فقبل البحث عن الحلول التي يمكن الاعتماد عليها من اجل إعادة الاعتبار الرمزي للمحاماة داخل المجتمع ، لابد من تلمس بعض الإشكاليات التي جعلت النظرة الدونية لمهنة المحاماة و المحامين تتوطن داخل أذهان و عقول اغلب المواطنين . و يمكن التأكيد على أن هذه النظرة ناتجة أساسًا عن أمرين أساسين ، الأول هو غياب ثقافة بيع الخدمات لدى المجتمع ، و الثاني هو ترسخ ثقافة التعميم لدى المواطنين . فعلى مستوى ثقافة بيع الخدمات فإن المجتمع المغربي ذو البنية التقليدية رغم مظاهر الحداثة السطحية ، مثله في ذلك مثل باقي الشعوب و المجتمعات العربية و الإسلامية ، ليست له هذه الثقافة ، بعكس المجتمعات الأوربية التي تؤمن بكون الخدمات عمل مهم و أساسي يجب أن يؤدى عنه مقابلا ماليا . أما المواطن في المجتمع المغربي على وجه الخصوص و العربي بصفة عامة ، لم يألف أن يشتري خدمات أو أشياء غير مرئية أو ليست لها دعامات مادية ، بعكس السلع التي يؤدي ثمنها وهو مطمئن البال ، لأنه يحس أن السلعة المشتراة موجودة ملئ يديه ، بعكس الخدمات التي لا يراها و بالتالي يقلل من أهميتها لأنها لا تظهر في دعامات مادية بمكن أن يتحوزها . كما أن المواطنين في المجتمع المغربي ألفوا في ثقافتهم الإسلامية و العربية و الامازيغية ، أن لا يؤذوا مقابلا للنصائح التي تقابل الخدمات ، لأنهم كانوا يقابلونها بالدعاء لمانح النصيحة سواء كانت في إطار ديني أو علمي أو واقعي ، و كانت كلمة ” الله يرحم الوالدين ” كافية بالنسبة لهم لمجازاة من يمنحهم النصيحة أو الخدمة . و معلوم أن هذه النظرة السطحية المتخلفة مازالت جاثمة على عقول الكثير من أفراد المجتمع إلى غاية اللحظة ، رغم أنه في الوقت الحالي أصبحت هناك الكثير من المهن الخدماتية التي تتطلب مجموعة من الشروط العلمية و الأكاديمية و المادية من أجل تأهيل الشخص لكي تكون له الأهلية لمنح المواطنين هذه الخدمة ، و التي تتطلب من ممارسها الكثير من الدراسة و الوقت و الجهد المادي و الفكري ، و بالتالي فهو يستحق عنها مقابلا ماليا محترما ، عبارة عن أتعاب ، و ليس فقط الدعاء الصالح له و لأولاده بالصلاح و الفلاح في الدنيا و الآخرة . و لذلك فتطور المجتمع و إنضاجه على المستوى الفكري سيجعله أكثر تفهما و امتنانا لعمل المحامي ، و ستغير نظرته إلى المهنة التي سيؤمن بها كآلية و ضمانة من اجل حماية حقوقه و مصالحه ، و ليس مجموعة الأشخاص يستولون على أموال كثيرة دون أن يقدموا شيئا ملموسا .
بينما الأمر الثاني هو ترسخ ثقافة التعميم لدى المجتمع المغربي ، إذ أن اغلب المواطنين المغاربة معتادون على تعميم وقائع شاذة و معزولة و استثنائية لتصبح قاعدة و معممة ، فيكفي أن يخون محامي واحد وديعة موكله ، إلا و تنتشر معه الإشاعة أن جميع رجال و نساء الدفاع خونة ، و هذا هو الإشكال الجوهري في حقيقة الأمر . و لا يمكن القول أن هذه الثقافة التعميمية لدى المجتمع المغربي في نظرتهم لمهنة المحاماة و ممارسيها فقط , بل هي راسخة على جميع المستويات ، فلم يسلم منها لا الأطباء و لا القضاة و لا باقي أطر الدولة من أصحاب المهن الحرة أو الموظفين الرسميين . و نفس الشيء بالنسبة لأي شخص منتمي لمدينة أو دولة أو عرق معين إذا اقترف خطأ ، فإن هذا الخطأ يصبح مقترفا من طرف جميع الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه المدينة أو الدولة أو هذا العرق . و لذلك ينبغي التأكيد أن مجتمعنا المغربي ما يزال مجتمع متخلف من الناحية الفكرية و الحداثية ، و استعماله لوسائل التكنولوجيا الحديثة لا يمنع من الجزم على أنه في تراجع على المستوى الفكري و التربوي . و هذا الأمر الثاني المرتبط بثقافة التعميم يصعب تغييره أكثر من المعطى الأول المتعلق بغياب ثقافة بيع الخدمات ، لأنه مرتبط بالثقافة و التربية و التنشئة التي أصبحت في الحضيض ، لا سيما بعد تخلي الوسائط التربوية الأساسية كالأسرة و المدرسة و الإعلام عن هذا الدور ، بل إن هذه الثقافة في ازدياد مطرد لا سيما مع ما أصبح يتم تداوله على مستوى الإعلام الفضائحي الإلكتروني و مواقع التواصل الاجتماعي ، و التي تكرس و توطن ثقافة تعميم الفضائح و المساوئ ، و هذا المعطى ستتضرر منه مهنة المحاماة أكثر مما هي متضررة منه في الوقت الحالي .
لذلك ، يمكننا التساؤل حول ما هي أهم السبل و الإجراءات التي يمكن القيام بها من أجل إحداث تصالح بين المحاماة و ممارسيها و بين المجتمع المغربي ، و من أجل القضاء بصفة نهائية أو على الأقل التخفيف من النظرة المتشككة للمجتمع المغرب اتجاه المحاماة و ممتهنيها ؟
يستدعي تغيير نظرة المجتمع السلبية عن المحاماة مجموعة من الخطط و الاستراتيجيات المباشرة و غير المباشرة ، من أجل رفع الوعي لدى جموع المواطنات و المواطنين المكونين للمجتمع بأهمية دور المحاماة داخل الدولة و المجتمع سواء على المستوى الحقوقي و التنموي . و لكن قبل البدء في التوجه نحو الآخر من اجل إقناعه بضرورة تغيير قناعاته المترسخة ، يجب أولا الاشتغال على الذات من خلال معالجة الاختلالات الداخلية ، و القضاء على الحالات الشاذة التي تشوه سمعة المهنة ، و هنا يبقى دور المؤسسات المهنية التي يجب أن تكون قوية و صارمة من اجل إما إصلاح هذه الأعطاب إذا كانت قابلة للإصلاح ، أو استئصالها بشكل نهائي تفاديا لأي انتكاسات فردية قد يؤدي تعميمها إلى الإضرار بالمكون القيمي و الرمزي لمهنة المحاماة . فترتيب البيت الداخلي و تحصين الجبهة الداخلية يبقى أهم عنصر في الإستراتيجية التي يمكن وضعها من اجل التصالح مع المجتمع و اعتبار المحاماة مع الشعب و المجتمع و ليس ضدهما .
و حين يتم تحصين الجبهة الداخلية ، يمكن حينئذ التوجه بواسطة سياسيات تواصلية تشاركية و مندمجة إلى أفراد المجتمع قصد حثهم و إقناعهم على تغيير و تعديل الصورة النمطية السلبية التي ترسخت في أذهانهم عن مهنة المحاماة ، و هذه الخطة تقتضي استغلال جميع مرافق الدولة و المجتمع من اجل توضيح دور المحاماة و الجانب النبيل الذي يتسم به عملها ، سواء كانت مؤسسات تعليمية أو تربوية أو إعلامية أو رياضية أو سياسية أو تشريعية أو ثقافية … و يجب أن تنبني هذه السياسة التواصلية على ضرورة إيصال فكرة مركزية و محورية و هي أن المحاماة لم توجد من اجل أن يكتنز الممارسين لها الأموال الطائلة ، و لكنها وجدت بالأساس لحمايتهم و الدفاع عن حقوقهم و مصالحهم الفردية و الجماعية ، كما ينبغي إقناعهم أن أي مطالب يطلبها رجال و نساء الدفاع ، سواء تعلقت بتوسيع المهام أو تدعيم الحصانة و الاستقلالية ، فإنها ليست مطالب من اجل المصلحة الخاصة لهم ، و لكنها بالأساس مطالب من اجل تمكينهم من التدخل بقوة و حزم لدعم حقوقهم و الحفاظ على حرياتهم .
نعم ، ربما يعد موضوع علاقة المحاماة بالمجتمع أو بنظرة مكونات هذا الأخير للمهنة من المواضيع التي لا تثار كثيرا ، إلا بخصوص علاقة المحامي المهنية بزبنائه ، من خلال تحديد الحقوق و الواجبات المتبادلة لكل طرف في مواجهة الآخر . و لكنني أظن أن الوقت قد حان للنظر في علاقتنا بالمجتمع ليس في إطار مهني ضيق في إطار علاقة محامي بزبون أو موكل ، و لكن توسيع النطاق و جعله في إطار عام و مطلق ، يتأسس على ضرورة تغيير الصورة النمطية للمحامي السلبية داخل المجتمع ، و إعادة الاعتبار لدور المحامي الرمزي و النبيل داخله ، و خلق مصالحة دائمة و راسخة بين الدفاع و أفراد المجتمع .