يوسف خليل السباعي
تكمن السعادة في ما يثير ويهيّج، وليس هناك شيء يثير سوى الجريمة، أما الفضيلة، التي هي ليست سوى حالة خمول واستراحة، فإنها لا تفضي إلى السعادة.
الماركيز دي ساد
خيانة
كل السنين التي عاشها في قرية صغيرة كانت سنين العذاب، والشقاء …
هل كان يحب زوجة عمه فاطمة؟
أم كان فقط يتلهى؟
لم أكن أعرف شيئا .
كان كلام يدور كالغمام في القرية الصغيرة حيث تتجاور البيوت .
كان الكلام يتبخر .
ولا أحد يهتم بالأمر، فلم يكن أحد يصدق هذه الخرافة .
كان ميلود ولدا حييا، صامتا، لكنه كئيب .
يمتطي دراجة هوائية، يعمل ميكانيكي سيارات. يصلحها دون أن يتمكن من تحقيق حلمه الذي يراوده كل مرة بابتياع واحدة. فلا قدرة له على جمع النقود، التي تظل بالنسبة له مثل سراب .
فتح له عمه البشير باب بيته، أحسن معاملته وأطعمه، وحسبه كولده .
ذات ليلة، نهضت فاطمة من فراشها وتسحبت من الغرفة دون أن يحس بها البشير، كانت ترغب في تفريغ شهوتها الجنسية بأي طريقة، ولم يأت لعينيها سوى ميلود، فتحت باب غرفته الضيقة، دخلت، وارتمت على الفراش جنبه، فحاول في أول الأمر أن يبتعد عنها، لكنها قبلته في فمه، ما جعله يشرب فاكهة العنب من فهمها ويغرس لسانه في لسانها إلى النهاية .
بقيت العلاقة بين ميلود وفاطمة سرية، ولم يعرف أهل القرية، بما يجري بين العشيقين .
كبرت العلاقة مثل شجرة عملاقة، وفكر العشيقان في الزواج. قالت فاطمة :
– أنا مستعدة للطلاق .
لم ينبس ميلود بالكلام. ابتسم رغم أنه لا يبتسم. إنه دائما كئيب .
لكن عمه البشير لم يرضخ لرغبة فاطمة في الطلاق .
فتشبثا بعلاقتهما كأن شيئا لم يكن، وفي نفس الوقت كانت فاطمة تخطط للتخلص من البشير الذي يعرقل رغباتها وشهواتها المتزايدة يوما بعد يوم .
كانت ليلة قمرية جميلة، ارتمى البشير في فراشه دون أن يحس بأي تغير على ملامح فاطمة، التي أدارت ظهرها للجدار، وبقي وحيدا، يفكر في أشياء كثيرة، إلى أن غلبه النعاس.
في تلك اللحظة، دلف ميلود بدراجته الهوائية إلى القرية دون أن يحس به أحد. انتهز فرصة انطفاء الأضواء وخلو القرية من الحركة.
ترك دراجته في خندق، وتمشى، وصل إلى ” كوري” صغير أسفل بيت عمه، أخرج هاتفه المحمول، واتصل بعشيقته من غير أن يكلمها، وبخفة اتصل بعمه البشير برقم غير ظاهر من غير أن يتكلم ..
استفاق البشير من هجوده، لم يستوعب بتاتا ما يجري. تساءل: – “هل هناك من يتآمر علي الليلة”؟ لكنه عدل عن التفكير في أمر كهذا. شرع ميلود في تحريك العصي في الأسفل. صعد الصوت إلى الفوق، خشي من سرقة الأغنام والأبقار…فنزل دون أن يمسك في يده اليمنى أي شيء، لا سلاح، ولا عصا.
كان صراخ فاطمة عاليا، وعويلها يرج جدران البيوت المجاورة .
وجدت بالجثة طعنات كثيرة بالمدية .
وكثف البحث في محيط الأسرة .
وسقطت فاطمة وعشيقها في يد البوليس .
ظهرت حقيقة العلاقة بين فاطمة وميلود في أرجاء القرية، وتداولها الصغير والكبير، بل أمست حكاية الوقت .
قالت أم البشير :
– ماشي بعيد تكون ذيك المسخوطة حاملة منه .
ونادى أهل القرية بالاقتصاص منهما .
هل ندم ميلود على ما اقترفت يداه .
لاشيء يوحي بذلك .
لا يبوح بأي شيء .
لم يشعر بما فعله.. أوشعر بذلك. لا أدري .
فقط، عندما نزل البشير ليتفقد المرآب الذي توجدبه مواشيه، خشية سرقتها من لصوص، خاصة أن انقطاع التيار الكهربائي كان عاملا مساعدا على ذلك باغته ميلود بضربة على يده اليمنى بعدما أشعل قداحة لإضاءة المكان، وتابع الضرب.. ضربه على رأسه بعصا غليظة، ثم استل مدية وطعنه في جغرافية جسده، إلى أن طعنه طعنة قاتلة في ظهره، فأفزعته الدماء التي كانت تسيل من جسم عمه، فتلمسها بكلتا يديه، وخشي أن يكون باقيا على قيد الحياة، فنحره ككبش العيد إلى حد أنه كاد يفصل الجمجمة عن الكتفين.
هل كان البشير عارفا بالعلاقة بين العشيقين؟
ربما، نعم، ربما، لا.. لكنه في الغالب كان يريد أن يحافظ على زمام الأسرة .
بيد أن الحبل فلت منه .
وسقط كنسر جريح .
لم يبق سوى الألم .
والبكاء الحار .
لا العويل المغشوش. لا الصراخ الكاذب .
شيء لم يدركه العشيقان القتلة أن روح البشير نبتت في ابنته زهرة الصغيرة، التي لم تعرف الحقيقة الآن .
لكنها ستعرفها عندما تكبر .
فكيف ستتغلب على هذا الجرح، الذي لم يفكر فيه العشيقان، وربما يفكران فيه في غياهب الزنزانة.
الهارب
الزنزانة
وحيدا داخل زنزانة.
زنزانة كئيبة، باردة، ومتسخة.
حائرا.
هل ندم يونس الشقيري على ما صنعت يداه؟
تحسس يده اليمنى التي قبضت بشدة على المطواة.
المطواة التي وجهت طعنة قاتلة لمراد الريسوني في صدره، وأصابت شاكر لطفي بجرح في عنقه.
ولم يكن أمامه سوى الفرار كنمر من الغابة.
لما فتح باب الزنزانة محدثا صريرا، دخل السجان يرافقه ضابط شرطة، وشرع يسأله:
– لماذا قتلته؟
– كان ثمة خلاف بيننا حين كنا نعاقر الخمر وسط عين ملول المترعة بالأعشاب والأشجار.
– لماذا هربت إذا؟
– هل تعتقد أنني أبله؟ أتظن أنني كنت سأستسلم لكم بسهولة؟
– لكننا قبضنا عليك في حاصل الأمر، وغدوت فأرا بعد أن كنت نمرا.
– أعدموني إذا، ولا تتركوني وحيدا في هذه الزنزانة القذرة.
– لا تتعجل موتك، سوف تتعذب قبل أن يزهق حبل المشنقة روحك.
– أفضل أن تعدمونني بالرصاص. طلقة واحدة وينتهي كل شيء. ولايعود هناك سوى العدم.
– أتركك الآن. الجحيم ينتظرك أيها النمر.. أيها الفأر..
قفل السجان باب الزنزانة بإحكام بعد أن خرج ضابط الشرطة، ثم ألقى نظرة جلفة على السجين، وانصرف.
في غابة عين ملول:
كان يونس يحب أن يسمي مسرح الجريمة غابة.
عين ملول موضع معشوشب ومشجر، لكنه مخيف في آن.
كان يفضله على أي موضع آخر، هنا تلذ له معاقرة الخمر مع رفاق دربه في التشرد.. يعيش من بيع الأشياء المستعملة في السوق الفوقي.
ذات ليلة صيفية، هادئة، صامتة، دلفا هو ومراد الريسوني وشاكر لطفي إلى الغابة، وشرعا في احتساء قوارير الخمر. وبعدما لعبت الخمر برؤوسهم اختلفا في الكلام، فتلقى يونس لكمة على أرنبة أنفه، ما جعله يستل مطواة ويطعن بها رفيقه، في صدره، ثم وجه ضربة إلى عنق شاكر، وتركهما والدماء تنزف منهما،وهرب.
ظل هاربا، وأنفاسه تتقطع من الجري، الجري الشديد إلى حد أنه لم يحس بقدميه تحركان الغبار وراءهما. ولم يقف إلا عند وصوله مرتبكا إلى بيت صديقه مصطفى اليعقوبي، بيت بناه عشوائيا.
هناك تنفس الصعداء، ولم ينبس ببنت شفة.
ارتمى على حصيرة صفراء بخيوط زرقاء، وغلبه النعاس.
احتار مصطفى في أمره، ولم يعرف حقيقة ماجرى لصديقه الذي دخل إلى بيته وهو يلهث من الجري كما لوكان هاربا من أفراد الشرطة.
لم يدرك أنه القاتل إلا في الصباح.
اعتراف
نهض في وقت مبكر جدا. كان مصطفى قد هيأ الفطور.
في غضون الأكل، اعترف له بما جرى، فطلب منه أن يغادر البيت توا، وقال له:
– اهرب، لن أشي بك.
– لاداعي لقول هذا الكلام .فأنا أعرفك.
كان مصطفى خائفا أن يلقى نفس مصير المقتول.
خرج يونس الشقيري من البيت، نظر نظرة سمجة إلى المحيط. كانت الطريق التي توجد بها عمارة الشفنجي خالية، لاوجود لأية دابة أو طائر. لاحركة، فمشى في أول الأمر ببطء، ثم أسرع الخطى، وشرع يجري، ويجري… ثم وقف ليتنفس الصعداء تحت ظل شجرة موز.
وشرع ينتظر والعرق يتصبب من جبينه سيارة أجرة كبيرة زرقاء.
وقفت السيارة.
ارتمى في داخلها، كما كان يرتمي على عشب غابة عين ملول. ويتمرغ فيه بعدما تكون الخمر قد لعبت برأسه.
ولم يهدأ إلا بعد وصوله إلى الفنيدق.
تخيل أنه في أمان، ولن تصل إليه أيدي الشرطة.
في قبضة الشرطة
كل شيء محسوب بالدقيقة والثانية. حتى النملة لايمكن لها أن تفلت من قبضة الشرطة.
عاين الضابط الجثة.
كانت الجروح بليغة.
جرح غائر على مستوى الصدر.
لم يكتب لمراد الريسوني أن يحيا.
فالضربة كادت تقتلع القلب من موضعه.
يالخفة يد القاتل الهارب.. ويالخبثه.. كأنه كان يريد أن ينتقم من المتسبب في تشرده.
وما أسهل بالنسبة له أن يستل مطواة أو خنجرا أومدية ويقطع بها نياط قلب يونس الذي كان يزعجه.
عرضت صورة يونس على الحراس الليليين بغابة عين ملول، وظل البوليس راصدا لمسرح الجريمة، فغالبا ما يدور القاتل في محيط الجريمة ليتفقد ضحيته.
حارس ليلي تعرف على يونس….
كان الخيط الذي أوصلهم إلى نقطة ضوء لتفكيك لغز الجريمة.
وفي الوقت ذاك قبض على سكير بالغابة.
دلهم على البيت الذي اختفى فيه يونس….وحكى بالتفصيل ماوقع..
كان الدم لايزال يتقاطر من عنقه.
ظل يونس الشقيري هاربا.
لكن إلى متى…
الزنزانة في انتظاره.
وله الآن أن يختار كيف سيموت..
هل بالحبل؟
أم بالرصاص…
أم …
الصورة للفنان التشكيلي محمد بوزوبع