عبده حقي*
اللغة الكلاسيكية بالنسبة لرولان بارت سلاح في خدمة الأيديولوجيات والفكر السائد. في عام 1977 وخلال درسه الافتتاحي في كوليج دو فرانس، أطلق رولان بارت هذه الجملة المدوية: «اللغة ، مثل فعالية كل اللغات، ليست رجعية ولا تقدمية، إنها ببساطة فاشية، لأن الفاشية ليست هي حظر القول، بل إنها الإرغام على القول». بهذه الكلمات القليلة شطب بارت على كل الافتراضات المسبقة للفلسفة الغربية منذ الإغريق، التي تربط بين ممارسة الكلام وممارسة العقل والحرية.
ما الذي يعنيه رولان بارت، الذي يلوح هنا بتهديد الفاشية في نقد خاص ومفرط في سنوات 1960- 1970؟
من دون شك أن هذا العضو الجديد في كوليج دي فرانس، سعى أولاً إلى هدم الممارسة المؤسسية لـ»الدرس» الشهير بقدر من الذكاء الذي حققه ميشيل فوكو قبل بضع سنوات من ذلك، والذي استفاد من تلك الفرصة السانحة لشجب كتاب «نظام الخطاب». أجل لقد تطرق رولان بارت لهذا الموضوع. اللغة فاشية: إن هذا التأكيد البارتي الواضح، الذي يهين اللغة ويساومها ولا يمكن لأي شيء أن يكون «عدوانيًا» أكثر منه. إن إضفاء الطابع الدرامي وتسييس قضايا اللغة أمر ثابت في فكر رولان بارت. فخلال قضية دومينيتشي – ذلك الفلاح الفرنسي المتهم بقتل ثلاثة سائحين إنكليز، الذي حكم عليه بالإعدام عام 1954 ثم تم العفو عنه – شكك رولان بارت في الآلية القانونية ووظيفة الكلام في محاكمته: إذ إن إتقان خطابات القضاة وإحساسهم أدبيا بالأدلة، أدى إلى تناقض صارخ، مقارنة مع لغة المتهم السيئة والواضحة. إنه «مشهد الرعب الذي يهددنا جميعا»، فالمحاكمة سرقت «اللغة من رجل متهم باسم اللغة»: «جميع جرائم القتل القانونية تبدأ من هذا المشهد.» إنه هدم الصيغ الجاهزة بالفعل.
يستنكر رولان بارت بشكل عام الوضوح المنافق للغة الكلاسيكية، ووهم ما هو طبيعي، والحقيقة التي تجعل من اللغة في الواقع السلاح غير المرئي لما هو سائد وأيديولوجي. بعد الماركسية أتاحت البنيوية اللغوية طريقة تجريد تضع المأساة والرياضة الحديثة على المستوى والتعامل نفسه مع الأدب، كما نتعامل مع وصفة للطهي.
يدرس رولان بارت في إطار سيميولوجي جميع العلامات، التي من خلال الإعلانات والسينما ومقالات الصحف، تغزو المجال الاجتماعي بشكل لاواع. لقد تم التنديد بهذه السيميولوجيا منذ نهاية الستينيات، باعتبارها نشاطا مستوحى من العقلانية الغربية.
ما العمل إذا لم يعد كافياً مهاجمة الإنتاج الأيديولوجي، إن لم يكن التنديد باللغة نفسها، وبنيتها ونظام قيودها الذي لا ينجو منه أي خطاب، سواء كان برجوازيا أم لا؟
إذا كانت اللغة فاشية فالأدب يمكن أن ينتج من هذا «الغش» ويولد «كغواية رائعة». لا تقتصر الجملة فقط على الحلم التحرري للبنيوية وحسب، بل تشير أيضًا إلى شيء ثابت آخر من الفكر البارتي، أقل دوغمائية بشكل لانهائي، الذي بدأ في عام 1944 بالثناء على «الآداب» الكلاسيكية التي أدت إلى « إدراك شظايا خطاب محبة ، مروراً بحب اليابان وعلاماتها غير المباشرة، وإعادة تأهيل متعة النص أو نقد «العري» لصالح الحجاب ومواربته المغرية .في عام 1980 قبل وفاته بقليل نأى رولان بارت بنفسه عن «غطرسة» الحــــداثة، تلك القاعدة الأيديولوجية الجديدة التي قرأ فيها خطرًا ما.
وأخيرًا لم تعد اللغة – الكلاسيكية – تبدو فاشية بالنسبة له لكنها «أساسية». وبالتالي كانت الصيغة الاستفزازية لعام 1977 مجرد محطة من محطات تحفيزه على الاعتراف بشكل حزين بنهاية الموضوع وعيوب اللغة وبمتعة النصوص والتمتع بها.
٭ كاتب ومترجم مغربي