مخلص الصغير
منذ ستينيات القرن الماضي، ظلت ثريا جبران تمشي على خشبة المسرح المغربي في انحناء وكبرياء، يوم لم يكن المسرح مفروشا أو مكللا بالأزهار، ولكنه كان مشتعلا بالجمار. بعدها بسنوات، تعرضت ثريا للاختطاف على يد مجهولين، إبان سنوات الجمر والرصاص، لما كانت تستعد للمشاركة في برنامج تلفزيوني. وقد قامت تلك الجهات المجرمة بحلق شعرها، تنكيلا بامرأة ليس لها من ذنب غير محبة الجمال.
فن المسرح كان قد اختطف ثريا جبران من قبل، حدث ذلك قبل نصف قرن من اليوم، في سنة 1964، تحديدا، مع فرقة “الأخوة العربية”، حين ظهرت ثريا في مسرحية “أولاد اليوم”، عن طريق المصادفة، ومن خلال “النظرة الأولى”.
كما يحدث في بداية كل عشق وغرام. كان زوج أختها محمد جبران يتدرب مع فرقة الأخوة، في مدينة الدار البيضاء، وهو يؤدي دور عاشق ارتبط بفتاة حملت منه. وبينما هو يعبّر عن خوفه من أب المعشوقة، وقد اقترب موعد الولادة مع تقدم الزمان، وظهرت علامات الحمل للعيان،في الوقت نفسه، كانت زوجة محمد جبران في مدينة الدار البيضاء على فراش الولادة، حيث طلبت الأسرة من الطفلة ثريا أن تتوجه إلى حيث تتدرب الفرقة، وحيث يوجد زوج أختها، لتداهم ثريا أعضاء الفرقة، وهم يتدربون، وتقتحم الفضاء، مخاطبة خالها: “عزيزي، راه تزادت عندك بنت”، أي أن زوجته قد أنجبت منه بنتا.
ومن حينها، أنجبت هذه اللحظة المسرحية ممثلة لا تضاهى في مسرح المغاربة اسمها ثريا جبران. وكان المخرج عبد العظيم الشناوي قد انجذب لطلعة ثريا جبران وتلقائيتها في التعبير والكلام، منذ تلك اللحظة، فقرر الاحتفاظ بالمشهد في مسرحية “أولاد اليوم”، والاحتفاظ بثريا، التي شاركت في ثلاثة عروض لهذه المسرحية، قبل أن تعبر مسارا حافلا من مسرحية “أولاد اليوم” إلى فرقة “مسرح اليوم”، مرورا بفرقة “الشهاب” وفرقة “المعمورة” و”القناع الصغير”، ثم العمل في “مسرح الطيب الصديقي”، وتجارب ومواهب أخرى…
لم يكن مهما أن يتم تعيينها وزيرة للثقافة في المغرب، هي التي تحتل منصبا كبيرا في قلوب المغاربة.
درب السلطان
ثريا جبران هي خريجة درب السلطان، أحد أقدم وأعظم أحياء مدينة الدار البيضاء، ومهد الكفاح الوطني ومسرح الشهداء. وفي هذا الحي سقط خالها المقاوم المعروف بـ”السي علي” شهيدا في شارع الفداء. ودرب السلطان هذا هو مسقط رأس العديد من المشاهير المغاربة، مبدعين وفنانين ورياضيين، وهو درب الرجا، ودرب الأب جيكو وبيتشو والظلمي، من نجوم الكرة، والحاجة الحمداوية ورجاء بلمليح في الغناء، والشناوي والتسولي وصلاح الدين بنموسى وعبد القادر مطاع وسعاد صابر وعائلة البدوي، في المسرح والتمثيل وكل فنون الآداء.
هنا، في درب السلطان، ولدت “ثريا المسرح المغربي”، كما يسميها صديقها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، وكان ذلك زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب. والمفارقة أن ثريا ولدت في حي يدعى “حي الإسبان”، وهو يحمل اسم المستعمر الإسباني الذي كان يحكم قبضته على شمال البلاد.
بعد سنتين، وتحديدا، سنة 1954، سوف تنتقل أسرة ثريا إلى درب الشنتوف، في درب السلطان دائما. التحقت ثريا بـ”مدرسة الفداء بنات”، في الشارع نفسه الذي سقط فيه خالها “السي علي” بطلقات من “رصاص موليير”، وهي كانت ضمن الفوج الأول من التلميذات المغربيات اللواتي تخرجن من المرحلــة الابتدائية مع فجر استقلال المغرب.
في هذه المرحلة، سوف تعيش الطفلة ثريا مخاضات الانتقال من الحماية إلى الاستقلال، كما يحكي لنا رفيق دربها في المسرح وفي درب السلطان أيضا، الكاتب المسرحي محمد بهجاجي. ومن هنا، شكلت ثريا ولا تزال، جزءا من “ذلك الحلم الذي عانقه جيل الاستقلال ورافق انكساراته وتعثراته”، وهو ما يقوله الكاتب المغربي محمد برادة ذات شهادة في حق ثريا.
قصيدة مسرحية
إذا كان المسرح قد بدأ شعرا، فإن ثريا جبران، في حد ذاتها، قصيدة مسرحية بلا منازع. ذلك أن “الشعر بالنسبة إلى ثريا هو المسرح الأصفى”، كما يقول الشاعر المغربي محمد بنيس. وقد استطاعت ثريا جبران أن تصعد بالشعر العربي إلى خشبة المسرح، كما لم تقو قصيدة على ذلك. فمع الطيب الصديقي، في “مسرح الصديقي”، قدمت سنة 1980 مسرحية “ديوان عبدالرحمن المجذوب”، التي أبدع نسختها الأولى سنة 1967، وهي تستعيد فيها الشاعر الصوفي الشعبي المجذوب، وحكمه الخالدة، كما قدمت في مسرح الصديقي مسرحية “أبو نواس” سنة 1984.
في سنة 1985، قدمت مع الطيب الصديقي عملا مسرحيا عربيا كبيرا، من خلال المسرحية التاريخية “ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ”، في إطار فرقة الممثلين العرب، التي أسسها الصديقي رفقة اللبنانية نضال الأشقر، بمشاركة ممثلين من العراق وسوريا والأردن وفلسطين، وثريا جبران من المغرب.
في سنة 1987، سوف تسطع شمس ثريا جبران في فرقة “مسرح اليوم”، من خلال عملها الأول “حكايات بلا حدود”، وقد اقتبسها زوجها المخرج عبدالواحد عوزري عن نصوص للشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، وهو “البدوي الأحمر” الذي كتب نصوصا مفعمة بالسخرية والمفارقات التي ضمنت الفرجة المسرحية لهذا العمل، حيث تألقت به فرقة “مسرح اليوم”، في يومها الأول، ودشنت لتجربة جديدة في المسرح المغربي، بل والعربي عامة. وقد عرضت المسرحية في مهرجان بغداد المسرحي في تلك السنة، وفي مهرجان دمشق للفنون المسرحية سنة 1988.
إذا كان المسرح قد بدأ شعرا، فإن ثريا جبران، في حد ذاتها، قصيدة مسرحية بلا منازع.
ساعات شاتيلا
أما العرض المسرحي “أربع ساعات في شاتيلا”، الذي يعود إلى سنة 2001، وهو نص للكاتب الفرنسي جان جنيه، بترجمة محمد برادة، فلم يكن يقل شاعرية، وهو يستعيد روائع الشعر الإنساني، من ملحمة جلجامش إلى قصيدة “حالة حصار” للراحل محمود درويش. هذا مع التذكير بأن أقوى اللحظات التي عاشتها ثريا جبران، وهي وزيرة للثقافة المغربية، كانت يوم سلم “بيت الشعر في المغرب” جائزة “الأركانة” للشاعر الراحل محمود درويش، سنة 2008، على خشبة مسرح محمد الخامس في العاصمة المغربية الرباط، وهي المكان الذي تألقت فيه ثريا جبران في أكثر من زمان.
وفي تجربة مسرحية شاعرة، مع عبد اللطيف اللعبي، ومن خلال الاشتغال على ديوانه “الشمس تحتضر”، ومسرحته مسرحة مؤثرة، استدرجت ثريا اللعبي إلى خشبة مسرح محمد الخامس، وهو يفتح ديوانه، ويقرأ ما تيسر منه.
يتذكر المغاربة كيف تحولت المسرحية إلى أمسية شعرية، قرأ فيها اللعبي بصوته، وقرأت فيها ثريا بصوتها وتعبيراتها وإيماءاتها الباذخة. عن تلك اللحظة المسرحية يقول اللعبي، وهو يتحدث عن صديقته، التي جاورته وحاورته شعريا ومسرحيا: “يبدو لي أنها كانت تقرأ في جراحي بقدر ما كنت أقرأ في جراحها. ولم نكن في حاجة للكلمات قصد التعبير عن ذلك”.
انتهى كلام اللعبي، وانطلق كلام الجسد، مع ثريا جبران. ذلك أن هذه الممثلة، ومع فرقة “مسرح اليوم”، استطاعت أن تحقق الدعوة التي أطلقها المخرج المسرحي السويسري أدولف آبيا من أجل “إلغاء دراما الكلمة”، وإعطاء الكلمة للجسد، حتى ينطق ويتكلم حين يتألم. لكن روح ثريا جبران المرحة والشاعرة ظلت أكثر تعبيرية وجمالية، واشد قدرة على معانقة ارواح المغاربة. لذلك، فهي حين ترحل عنا اليوم فلكي تقيم في قلوبنا إلى الأبد.