عائشة بلحاج
“يتحدّث الناس عن المرض كمُعمّق لتفكير لإنسان، لكنّني لا أشعر بأي عمق، بدلًا من ذلك أحسُّ بأنني مسطّحة”. هكذا وصفت سوزان سونتاغ تجربتها المريرة مع السّرطان قبل رحيلها. تدحض سوزان هنا من يحاول تقديم جانب إيجابي للمرض، بزعم كونه يقوي الرّوح مع أنه يُضعف الجسد.
هؤلاء أنفسهم من يحاول إلى الآن رؤية الجانب المشرق في المُصاب الذي حلّ بالبشرية، منذ مطلع السّنة. بالحديث عن عالم ما بعد كورونا، ما بعد المرض؛ عالم يتعلّم فيه البشر من الوباء كيفية المحافظة على الكوكب، ويدرك فيه الإنسان تلازم صحّته مع سلامة الطبيعة.
غير أنّ ما رأيناه وما نراه لحدّ الآن، يناقض ذلك كله؛ فمِن أيّ زاوية أو نافذة نَظَرنا، لا يبدو العالم في طريقه إلى عقد أيّ نوع من أنواع السّلام، لا مع بيئته ولا مع الآخرين. فهو حريص على مواجهة التّهديد الفيروسي بالمقاربة الأمنية التي تنظر إلى الآخر باعتباره عدوا؛ سواء أكان ذلك الآخر الذي يُشاركه السّير في الشارع نفسه، أو الذي يقتسم معه الحياة على الكوكب. الآخر مصدر الوباء، ومكمن الخطر، لذا يجب أن نُغلق الحدود أمامه إن كان في الخارج، ونحاصره إذا كان بيننا في الدّاخل.
يقدم زيغمونت باومان في كتابه الشهير “الحداثة السّائلة”، نموذجا لـ (مجتمع يستمدّ هيمنته من حدوده المنيعة وحراسته الشديدة، لا من موضوعه وفكره ورسالته؛ ومن اختزال فكرة “الدفاع عن المجتمع” في استئجار حُراس مسلّحين يراقبون مداخل المدينة؛ وفي اختزال المناطق العامة في جيوب ذات مداخل محددة “يمكن الدفاع عنها”). ويستشهد باومان هنا، بما ذهبت إليه شارون زوكين التي وجدت في “سياسات الخوف اليومي للولايات المتحدة خطرًا على الثقافة العامة”. طالما هناك “خوف من الشّوارع غير الآمنة، يُبعد الناس عن الفضاءات العامة”. ورغم أنّ الحديث يدور هنا حول المقاربة الأمنية لسياسات مكافحة الجريمة، إلّا أنّ المثال يصح استعماله في الوضع الرّاهن. حيث روت زوكين أنّها “سمعت رجلّا يقول في حافلة: اسجُن جميع الناس” كحلّ ساخر للوضع. وهذا لا يختلف عما نسمعه في الشّارع، من المارة الذين تعبوا من تقييد الحركة “ارمونا في السّجن جميعا إذا شئتم، لكن لن نبق في بيوتنا يوما آخر”. هذا المثال، أو مثال زوكين يتوافقان مع تدابير خصخصة الفضاء العام وعسكرته، بتوفير مزيد من الإجراءات الأمنية في الشّوارع والمنتزهات، وحتى المحلّات، على حساب حرّية الناس، بزعم حمايتهم.
يحيلنا هذا إلى الدّول التي تُواجه أزمة كورونا بالمقاربة الأمنية وحدها؛ فتنشر قوّات الشّرطة والجيش وغيرها من الأجهزة الأمنية التي تكاد تنفرد بتدبير الأزمة، بيدٍ تنهرُ ولا تُوجّه أو تُطبطب على مصائبنا الولود. وتحاصر الأحياء والمدن لو اضطرّت لذلك من دون أن ترمش لها عين. وهذه المظاهر العنيفة لحضور الدولة، التي كان يفترض أن تقوم بأدوار الرّعاية فإذا بها تقوم بـ “الرَّعي” وهَشّ “عدو خفي” بالاعتقال الاحتياطي للجميع. وبدلًا من حجز الذّئب، غير الممكن، تقوم بسجن الخرفان.
للحظة، خلنا ونحن أمام مشهد المدرّعات في شوارع لم ترها في تاريخها، منذ أيام المنجنيق، لا نستبعد سيناريو قصف حيّ مصاب بكامله، مثلما نرى في أفلام الفيروسات القاتلة. إذ يكفي أن يستفحل كوفيد اللّدود إلى درجة أقوى بقليل، حتى يُطرح السّيناريو على خارطة التّكتيك الأمني خلف الجدران، حيث نتحوّل إلى أرقام فحسب؛ يبيدون مثلا عشرة لينجو ألف. أنت وحظك الذي قد يضعك بين العشرة أو الألف، بما أنّنا نعيش أزمةً ذات طابع فيروسي تُدشّن، ضمن ما تدفع إليه، مرحلة من الشكّ في كل الثوابت السّابقة، من قبيل حدود العنف المشروع للدولة، وحقوق الفرد الذي أوشك أن يبلغ مكانة الدولة في القوانين الدّاخلية والدولية، ولو على الورق.
لهذا يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوسيل إنّ “تخوفات من قبيل حصر الآخر في خانة العدو، إذا ما عُمّمت، فإنّها ستؤثر على عالم اليوم” ويضيف متسائلا “إلى أيّ حد سنذهب؟ هل نرسل طائرات درون من أجل مراقبة الأحياء، كما هو الحال في كبريات المدن الصينية؟ إذا واصلنا على نفس هذا المنوال، فسنُقبل على تحوّلات حادة في مجتمعاتنا، لكن ليست تلك التي يطمح إليها من أدعوهم (طوباويي العالم البعدي)”.
مع ذلك هل نرى الناس يرتجفون من الخوف في بيوتهم؟ لا أحد منا يظن ذلك، بما أن مجتمعاتنا أفرطت في التحرّر من القيود. ولم يعد أحد يخشى الدولة وعنفها المشروع وغير المشروع. وهو ما تدركه هذه الأخيرة، لكنّها لا تعرف كيف تتصرّف، لهذا تلجأ إلى مزيد من الإجراءات الخانقة، التي تؤشّر إلى غياب تصوّر مستقبلي. وهو أمر لم يكن حاضرا لا قبل العدوى ولا بعدها. والدليل هو الارتباك الذي وقعت فيه بداية الوباء. كلّ ذلك الخوف والرّعب والإغلاق الكامل، وتردّي المنظومات الصحّية، حتى في أكثر الدول غنًى وتقدمًا.
كل هذا لم يجعل الدول الأخرى تسارع إلى تدبير الأمر، بل انتظرت دورها في طابور الوباء حتى وصل، من دون أن تجد حلًا حتى لقطعةِ قماش يضعها مواطنوها على وجوههم، وهي أبسط وأرخص ما يمكن فعله في مواجهة كارثة صحّية. ورغم مرور شهور على بداية الكارثة، لكن لا يبدو أن دولنا بشكل خاص تعلّمت كيف تتصرف، وها هي تواصل الارتجال كممثل وجد نفسه بطلًا لتراجيديا لم يطلّع عليها سابقًا، ومهما ارتجل، ومهما مرّ من الوقت، لا يبدو أنه سيعرف كيف سيؤدي الدّور، وكل ما يفعله أن ينتظر نزول السّتارة بأقل قدر من الخسائر.
في هذه الظروف المريبة، وبين يدي الوباء الضّخمة، وجدران الدّول التي علقنا فيها، لا نملك إلّا نقول ما قاله الشاعر البيروفي الكبير سيزار باييخو:
“حبّي للحياة اليوم أقل بكثير/لكنني أودّ أن أحيا بأيّة حال…/أحب أن أحيا دائمًا، حتى لو مستلقيًا على بطني”.
نحبّ أن نحيا حتّى ولو أنّ مستشفياتنا مقابر، ودولنا تحاصرنا لأشهر، وتُغلق الشّواطئ والسّاحات والمحطات والمطارات. بل حتّى لو أغلقت السّماء… نحبّ أن نحيا لو سمحتم.