محمد بشكار
من عاش عِقْدَه الطُّفولي الأول سبعينيّاً وكان في حُكم جيلي الذي نتمناه اليوم لو كان حُكْماً مؤبداً، سيتذكر دون أن يتوغَّل في أسلاك التعليم ويبدأ النَّشاط، ثلاثة موادٍّ أساسية في المُقرَّر الدِّراسي قبل أن يسمع اليوم عن التربية الجنسية، هي التربية الإسلامية والتربية الوطنية والتربية البدنية، ومن زاد مُطالباً بغيرها الكامن تحت الحزام وخلف السروال، فتفكيره حائضٌ ناقص عقل ودين ويحتاج لإعادة التربية حتى يرْتدِع وينضمَّ للماشية!
سيتذكر المُتعلِّمون من جيلي قبل أن يبدأ النشاط، أن ثمَّة حلَقةً ناقصة تُعقِّدُ المرء نفسياً ولا يجد لحاجتها المِلْحاحة إشباعاً في المواد التربوية الثلاثة، فالتربية الإسلامية تنهى عن الفحشاء والمُنْكر وذلك مما تسْتلِذُّهُ الأنفس التواقة بطبيعتها للمُحرَّمِ والممنوع، والتربية الوطنية حاولت عبثاً أن تصنع مواطنا صالحا للمجتمع، لكن الخوف من الفقر الذي رافق كل أيامنا، لم يصنع بالنهب والتوزيع غير العادل للثروات إلا الجشع، ولم تكن هذه الحلَقة النَّاقصة والتي تُدَوْزِنُ المكبوتات والمشاعر كما يُدَوْزِنُ العازفون أوتار المزاهر، إلا التربية الجنسية التي بقيتْ معطوبة بعوْرتها في أنفس كل الأجيال وما زالت مع تناسُل كوارث الاغتصاب، أرضا خلاء لانتعاش الاستيهامات الجنسية بأخْطر الأفكار، وها نحن اليوم نضع اليد على الخدِّ مشلولين، لا نعرف مع فظاعة جرائم الكبْت المُقْترفة ببلدنا أن نُفرِّق بين الإنسان والوحِيش !
لم أنس التربية البدنية، كانت بسبب حلَقة التربية الجنسية المفقودة في التعليم المغربي، تضع في الجسم السليم عقلاً غير سليمٍ يُفكِّر في أشياء خارج الحِصَّة مُضِرَّة بالصحة، ولَكُم أن تتصوَّروا مثلا حالة تلميذ لم يستطع أن يُكمل أكثر من دورة ركضاً حول الملعب، حين يُمطره أترابه بتعليقات ساخرة أثقل من الرَّجْم، قائلين إنه خائر القوى لأنه يضرب بممارسة العادة السرية أخماسا في أسداس، كيف لا ينْكفِىء هذا الطِّفْل على نفسه الجريحة رافضاً الالتحاق مرة أخرى بالصَّف، أما إذا تعرَّض الإنسان للاغتصاب في الصِّغر وصار يعاني اضطهاد الأعين، فقد يتطور جرحه ولو كان بسيطاً قابلا للعلاج النفسي، ليُعوِّضه مُسْتقبلا بضحايا مثله ولكن بجرائم أفظع تُرهب المجتمع، لا غرابة إذن إذا تخرَّج من مدرسة الشعب الإنسان السَّوِي إلى جانب الذئب !
سيتذكَّر المُتعلِّمون من جيلي قبل أن يبدأ النَّشاط، أن هَوَسَ التفكير في الجنس أثقل كاهل الأنفس منذ نعومة مشاعرها، وكانت الذات البشرية كما أسْلَفْتُ أرضاً خلاءً لا تجد من يُحضِّر بدائيتها للحصول على مدارك متوازنة، كل شيء عندنا يدخل في باب المُحرَّم ومن دخل معه فهو مُجرمٌ ينوبه أشد العقاب، وذلك مما يسْتثير أكثر فضولنا ونعتبره ثقافة تستحق مجازفة المعرفة ولو كان الثمن قطع الرأس، وما أكثر الأعناق التي جُزَّتْ على امتداد تاريخ الشهوات المُنْحرفة دون جدوى، إلا إذا اجتهد المُشرِّع وأوجد اليوم قانونا لذلك الرأس الآخر الذي لا تنفع مع تواريه المقصلة بل الإخْصاء، فبعض البيض يصلح للعشْق وآخر للسَّلقْ!
لِنقُل إننا مع الظروف العصيبة لقِلَّة ذات اليد، كُنَّا عصاميِّين في ثقافتنا الجنسية، لم يكن يكفي أن نُلبِّي الرغائب بخيالات مستحيلة، ولم تكن تُطفىء النار رسائل الغرام نبعثها بالعطر مع الريح، لأننا نعلم مُسبقاً أنها بدون جواب يجعل الواقع بكل جغرافياه الناعمة ملموساً وليس مجرد سراب، كنا نقرأ بعروق نافرة كُتيِّب “الروض العاطر في نزهة الخاطر” للنفزاوي سامحه الله، كان بارعاً في سَرْد ما يمكن أن أسمِّي دوخته بالتهريب الجنسي رغم أنه ليس حشيشاً، وأتذكَّر من قصص النفزاوي أنَّ رجلا تقيّاً ورِعاً اغتصبته امرأة حسناء بعد أن احتجزته تحت التهديد في منزلها لأيام كافية لإشباع الوطر، وأذكر في نفس السِّياق الذي التفَّ بالسَّاق أن محمد شكري استغرب أن تُصَادَر روايته “الخبز الحافي” لإخلالها بالحياء العام، بينما “الروض العاطر” يُباع عند أبواب المساجد وقد يستمتع بقراءتها حتى الإمام!
ذلكم بعض ما سيتذكره المتعلِّمون من جيلي قبل أن يبدأ النشاط، ولا أقصد فقط النشاط العلمي الذي يُعلِّمنا كيف نشرِّح الضفادع بينما تفكيرنا يُشرِّح ما تحت الثياب، بل أعني كل الأنشطة بخلاياها النائمة في جسد مُراهِق محروم، وها نحن اليوم نجني بجرائم اغتصاب الذُّكْران والإناث المتبوعة بالقتل والوأْد، نيران هذه الخلايا العفِنة بعد أن استيقظت لتُحرق أكباد الآباء والأمهات، وما بقي دون حلٍّ تربوي فهو دائماً على أهبة الانفجار!