يوسف خليل السباعي
خرج طارق الجمال من شركة الحليب التي يشتغل فيها منذ أعوام لاحصر لها وكأنما خرج من كهف.
كان على طارق الجمال أن يقطع مسافات غير قصيرة حتى يصل إلى المدار الذي يؤدي إلى رأس الطرف، مع أن وجهته لم تكن ذاك الرأس الذي غالبا مايسمونه بالرأس الأسود أو كابونيكرو.
مشى طارق الجمال على اليمين حيث تمر بضع سيارات وتاكسيات أجرة كبيرة زرقاء وحافلات وشاحنات حتى لايتعرض لحادث. كانت هناك بنايات ضخمة وفخمة تكاد تعانق السماء الصافية والغامضة. لم يحس بالعياء ولم يكن جبينه يتصفد عرقا، ولايرتعش، وإنما يتابع مشيه بتباطؤ برغم حرارة الشمس الملتهبة التي لم يكن لديها أي تأثير عليه، بيد أنه كان خائف من كوفيد التاسع عشر الذي حصد العديد من الأرواح، وجعل المستشفيات تتكدس بالمصابين.
تابع طارق الجمال مشيه على اليسار، فلمح مطعم سمك، بباب حديدي مشرع وبشرفات صغيرة مغطاة بالورود، لكنه لم يكن جائعا، برغم لهيب الشمس لم يتوقف عن المشي وإذا به يصل بعد خطى حثيثة إلى المدار الذي يؤدي إلى مرتيل، إلا أنه كان عليه أن يقطع مسافة أخرى غير قصيرة. لمح على القرب من المدار مركبا سكنيا ومطعم فوق الجبل مغلقا… لربما بفعل حالة الطوارئ الصحية أو لربما بفعل الحجر الصحي المخفف، ولكن طارق الجمال لم يكن يهمه من كل ذلك سوى قضاء مصلحة إدارية، إذ كان ملزما عليه وبأمر من مدير الشركة ياسر شهبون أن يوصل وثيقة إدارية سرية إلى أحد المتعاملين مع الشركة لإحدى المصلحيات بحي المطار دون أن يفتح المظروف.
لقد عامله المدير كما لو أنه ساعي بريد، وكان بوسع المدير أن يتصل بالمتعامل عن طريق الواتساب ويسلم طارق الجمال من هذه التوصيلة و مشقة الطريق، إلا أن الأمر على ما يبدو في غاية السرية، وإذا كان في غاية السرية فهو في غاية الأهمية، وطارق ليس جنيا ولا ملاكا ولا شيئا، هو من التراب، بشر، وغالبا مايوسوس له الشيطان، وإذا لم يوسوس له الشيطان، فإن عقله الباطن قد يدفعه إلى تمزيق حواف المظروف ومعرفة السر، ولكن الخوف من المدير ياسر شهبون قد يجعله يتراجع عن هذه الفكرة التي ظلت تطن في دماغه كمثل طنين ذبابة مزعجة، بل قد تجعله يركل الشيطان نفسه.
تابع طارق الجمال مشيه وسط الطريق، فأحس بأنه لايمشي على الأرض وإنما على كوكب المريخ، وخيل إليه أن الطريق حمراء، وكل البنايات والمركبات والمقاهي والمطاعم والمحلات حمراء، وفجأة، وجد نفسه أمام سوق الشبار الذي لم يكن يعرف حركة كما كان يعرفها قبل حلول كوفيد التاسع عشر… ومن حسن الحظ، أن تاكسي كبير أزرق كان ينتظر الركاب. ركب طارق الجمال التاكسي ولم يقف به إلا بجوار محطة بنزين الشعيري، ومن ثمة، أمست مهمته سهلة.
وصل طارق الجمال إلى المصلحة الإدارية، وسلم المظروف للمتعامل وخرج، دون أن يعرف مايحمله المظروف من سر، وظل يفكر في ذاك السر اللعين دون أن يعرف شيئا.
بدأ الإرهاق يدب في جسم طارق الجمال، و لم يعد يهمه أمر سر المظروف، ولا شيء سوى أن يعثر على تاكسي كبير أزرق ليعود إلى عمله بالشركة… تابع مشيه حتى وصل إلى محطة بنزين الشعيري. قطع الطريق… ووصل إلى مكان وقوف التاكسيات المؤقت، لكن لاتاكسي يمر، ولا طير يحلق، سوى شرطي واقف في مكانه بالقرب من حديقة تحوي مجسمات رياضية خشبية. سأل الشرطي برفق:
– هل يوجد ، ياسيدي، تاكسي كبير أزرق يوصل… إلى مرتيل.
– لا… لا، الوسيلة الوحيدة المتبقية لك هي المشي على رجليك. استعد، إذن. لذلك. انطلق.
أخذ الشرطي الصفارة بيده اليمنى، وشرع في الصفير.
انطلق طارق الجمال بعد أن سمع الصفير مسرعا، ولم يلتفت وراءه حتى وصل إلى موضع به شجرة، دون أن يحس بمرور بضع سيارات وحافلات وشاحنات ودرجات هوائية أمامه، وشرع يلهث.
كانت شجرة قديمة ووحيدة بلا أوراق، كما لو أنها جدة غاب عنها أبناؤها وأحفادها وتركوها في هذا العراء.
غادر طارق الجمال الشجرة دون أن يحس بأي شيء، ولكنه أحس بمياه كما لو أنها دموع تقطر على قميصه ذات لون أحمر، فارتعب، وجرى حتى وصل إلى الشركة.
دخل إلى الشركة. فتح باب مكتب المدير ياسر شهبون الذي لم ينقطع عن الضحك مذ رآه بذلك المظهر المقرف كما لو كان ضفدعة.
وعندما سأله عن سبب ضحكه، قال له المدير:” هل تعرف يا طارق الجمال ماذا كان يوجد في ذلك المظروف؟…” وأجاب:” لاشيء سوى الفراغ!”…
لم يحس أو يعلم طارق الجمال أن المظروف كان فارغا. حينئذ، سقط على أرضية المكتب.
وفي رمشة عين، أمسى ضفدعة.