يوسف خليل السباعي
رائحة الكتب تدفع المراهق يونس أنقار إلى بناية الطير، حيث الرجل المنحوت يملك أجنحة. كانت أجنحة الرجل الطائر تعانق سماء الله العالية، الصافية والغامضة. لقاء الرجل الطائر ساحة يتزعمها مدفع حديدي صلب.
واستديو تصوير عبد الجليل خليفة، وشارع فسيح مر منه بنونة والطريس و داود والوزاني وبيرتوتشي، ولربما فرانكو. شارع له الأثر، والنسيان.
في هذا المحيط- البناية كانت توجد مكتبة الناصر التي كان يزورها المراهق يونس أنقار وكان الناصر يقضي أوقاته في هذه المكتبة الزاخرة بالكتب ذات الأشكال والألوان والأحجام المختلفة المتدفقة بالمعرفة والعلم والثقافة والأدب.
كانت قسمات الرجل يغطيها الوقار، ولم تكن البسمة تغادر شفتيه. وكان قلبه متفتحا كالورد، يشجع على قراءة الكتب.
سأله ذات يوم يونس أنقار عن شغفه بالكتاب وولعه به، فأجاب الناصر: ” الكتاب كالحليب بالنسبة إلي”.
تذكر يونس أنقار بعض الكتب التي كان يقرأها في السبعينات، والتي سرقت من طرف مجهول، وكانت تأتيه في أحلامه الليلية.
في الحلم الأول ظهر له كارل ماركس بلحيته الكثيفة ونظرته الغريبة كحد السكين، وقال له:” ضيعت كتابي المجلد الأحمر… أعده إلى مكانه… أنت تركته ملقى على الأرض… لن أسمح لك بالقول أن أحدا سرقه… أعده وحسب…”
غاب كارل ماركس عن نجمة الحلم. نهض يونس أنقار من سريره، وشرع يفكر في كيفية استعادة الكتاب، بيد أنه لا يعرف من هو السارق، ولايستطيع أن يبلغ الشرطة عن الكتاب المسروق، لأن الأمر يتعلق بكارل ماركس.
كان يونس أنقار يحب الرواح إلى مكتبة الناصر، وفكر في أن يحكي له قصة الحلم، إلا أنه تراجع عن ذلك، ولم يقم بأي شيء، بل إنه لم يتحرك قيد أنملة بعد أن شاهد الناصر غارقا في قراءة كتاب لم يعرف عنوانه، وكان معروفا عن الناصر أنه ينتقي الكتب التي يقرأها بدقة وبمعرفة.
عاد يونس أنقار إلى البيت ليلا، لم يتناول الطعام، ارتمى على السرير وغاص في النوم.
في الحلم الثاني، رأى نجيب محفوظ ببسمته المعهودة وأناقته يكلمه باللهجة المصرية ويسأله عن رواية ” خان الخليلي”. فرح يونس أنقار لسؤاله، وقال له:” هذه الرواية بالذات، لم تسرق”، وهي حقا لم تسرق.
عندما اختفى نجيب محفوظ، تذكر يونس أنقار أن الناصر في الغالب كان يقرأ تلك الرواية.
نعم، تيقن أنه كان يقرأ ” خان الخليلي”.
مرت أيام وشهور وسنوات لاتعد، وفي كل مرة تذكر يونس أنقار أنه كان يذهب إلى مكتبة الناصر ويلتقي به ويشتري منه بعض الكتب، كان يحلم بكتاب يقتحمون عليه محيطه، ويعيشون معه في نفس البيت إلى درجة أن البيت أصبح مملوءا بشتى أنواع الكتب، وبنبرات وأمارات وأصوات وموسيقى، كانت اللغات نفسها تهجر كتبها وتتسكع في البيت، أما الأساليب واللهجات الفردية فهي تتجول بكل حرية، بل كان يرى إنجلز ولينين ونيتشه وباطاي و الوزاني و تشي غيفارا وفان خوخ وطه حسين والعقاد والمنفلوطي و نجيب محفوظ وموسى وعبد القدوس والسباعي وإدريس وحقي والحكيم والطريبق يشربون قهوة سوداء ويتحدثون في أشياء غامضة.
ظل يونس أنقار لردح من الزمن على هذه الحال إلى حد أنه أصبح لايخرج من البيت إلا لماما، بيد أن السأم جعله يخرج…
مر من أمام بناية الطير، حيث الرجل المنحوت يملك أجنحة، رجع خطوة إلى الوراء، تأمل برأس عالي جيدا الرجل الطائر، وعندما أراد أن يلقي نظرة على مكتبة الناصر، لم تكن هناك.