الكاتب: يوسف خليل السباعي
1- مقبرة
بعد موتها.
وبعد سنوات من الغياب و السقوط في بحر الحزن عاد عمر إلى المقبرة…
كان ثمة قبرها… بلا إسم… يصعد منه نور خيالي…
ومن هذا النور تدفق في باطنه صوت.
قال الصوت بهدوء:
حبيبي… لا تخف…لاتتكلم… أنت هنا بالقرب مني وأنا بالقرب منك…
لم يكن في المقبرة أحد…كانت ريح خفيفة فحسب… ونور انبجس بخفة… ثم اختفى فجأة كمثل طيف.
2- النظرة
كانت نظرتها غريبة، ملغزة، وقاسية.
لم تكن بثينة تخرج من المنزل إلا في أوقات قليلة.
تغسل الأواني، تنظف البيت، ترتب مكتبة صاحب المنزل الذي تشتغل فيه منذ سنوات…
كانت جميلة.
عيونها الخضراء شجرة صنوبر. وقسماتها يغلفها حزن غريب.
لم تعرف الحنو أبدا.
وعندما كان يقترب الليل، ويشع القمر وسط السماء، كانت تفتح نافذة المطبخ التي تطل على حديقة فخمة، وتسترجع، بتلك النظرة الملغزة، ذكريات طفولتها المعذبة.
3- المرآة
استفاقت سناء في الصباح الباكر مذعورة.
دلفت إلى الحمام.
نظرت إلى المرآة.
كان وجهها شاحبا، وشعرها مشعثا، لم تصدق مارأته.
قالت في سرها:” هل أنا هي هذه المخلوقة!؟”.
اجتاحتها رعدة، وفكرت في علاقتها الغرامية بالشاب محسن الذي تكبره بعشر سنوات.
خرجت سناء من الحمام.
اتصلت بالشاب محسن في الهاتف، لكن لا مجيب.
اجتاحها عصاب.
عادت إلى المرآة وكسرتها، ثم انصرفت إلى غرفة النوم وفتحت صفحتها على ال”فيسبوك”.
كانت رسائل محشوة بالشتائم تنزل عليها كالمطر متبوعة بأصوات مزعجة.
4- نباح كلبة
في ليلة غاب عنها القمر، نزلت من الحافلة في ساحة معشوشبة.
كانت الساحة شاسعة كملعب لكرة قدم مهمش.
حالما نزلت من الحافلة أحسست برعب، لايوجد قدامي سوى الفراغ الشاسع، الممتد، الغريب.
نظرت إلى قدمي، وجريت… جريت…
كان الهدوء يغمر هذا الفراغ الشاسع.
بغتة، تعبت من الجري.
عندما وقفت لأتنفس وجدتني قدام كلبة، عيونها حمراء كنار الهشيم، وجسمها ضخم مقيت. نظرت إلي بقسوة، وشرعت تنبح بلاتوقف.
فكرت، وقلت في سري:” لاحل إلا الجري!”.
جريت… جريت…، شاهدت امرأة شرسة تضرب زوجها بفظاعة، لم أكثرت بهما، تابعت الجري، الجري، الجري…،
لكن نباح الكلبة لم يتوقف.
5- القفطان
وردة وحيدة.
جالسة على أريكة سوداء في صالون البيت الشاسع. ترتدي فستانا أزرقا كلون البحر، عيناها تلمعان، أنفها دقيق، تبتسم كالعادة فتنبجس الشمس من شفتيها.
تضع كل معداتها بالقرب منها، كل الأصداف البراقة كالذهب، وكل الخيوط الملونة، وأشياء أخرى… يزدوج الخيط… تتعثر، ترتعد، تغضب، تبكي…
تحني رأسها وتشرع في زرع الأصداف بالخيط المزدوج الأبيض على حافات القفطان وفي وسطه، فينبجس ضوء ذهبي من القفطان المبسوط على بطنها.
ترفع وردة رأسها، تشعر بأسى، تذهب إلى المرحاض وتتقيأ، ثم تنشف وجهها بمنشفة، وتعود للجلوس على الأريكة السوداء.
لم يكن هناك أثر للقفطان.
اختفى كالشبح.
6- الجسد
ضوء خافت يغلف غرفة النوم.
كانت المرأة ذات النهود الصغيرة المشهية نائمة كأنها صعدت إلى السماء الزرقاء.
عيونها مغلقة كأنها لاترغب في الرؤية.
الجسد وحدة يتكلم!
لاحركة… لانفس… لاترنح…
الصمت ينطق!
كان جسد المرأة ذات النهود الصغيرة المشهية ينادي الميتافيزيقا…
لا أحد كانت له القدرة على التمييز، على الرؤيا…
انطفأ الضوء، وبلا قدرة على الحركة، كان الجسد العاري يعود إلى الثرى.
ولاشيء يلبث بعده سوى الفراغ!
7- جثمان امرأة
بياض تمسكه الأيدي يغلف جثمان امرأة لا أعرف ملامحها.
شيء مايحدث داخل القبر. ماهو!؟… لا أعرف.
جثمان المرأة لا يشاهده أحد؛ بيد أن الكل ( الجمهور) يتخيل ذاته داخل القبر عاجلا أم آجلا…
حجارة تتكوم على القبر بعد دفع البياض…
حركة… عيون متربصة… وقلوب مرتجفة…
يأتي الإسمنت ليلقي تحيته… رواح وإياب…
العيون تغادر مغاراتها… متاهات…
هاهو التراب… لاشيء غير التراب…
” أيها المعتوه! لا تنزل… لا تلمس التراب… إصعد… فقط… إصعد…” يقول صاحب التراب.
لاشيء غير التراب…
جثمان المرأة وحيدا في القبر.
أين هي العيون!؟
لقد غادرت المقبرة…
وحده البياض يعود…؛ لكنه يعود للجلوس فوق المقابر في سكون.
8- السمين وسيجارة (كامل)
استفقت، هذا المساء، من نوم فجائي؛ لم يكن نوما عاديا؛ فلقد نعست بملابسي! فأحسست أن المساء قد تحول إلى صباح!
دخلت إلى الحمام، وغسلت وجهي بصابون مصنوع من الورود، ثم بعد ذلك تناولت أكلة خفيفة، وخرجت!
كان القمر يشع وسط السماء، ولم تكن هناك نجمة واحدة!
صخب في الشارع.
جلست على كرسي من الكراسي؛ وطلبت قهوة بالحليب. حضرت القهوة بالحليب ومعها كأس ماء بارد!… أخرجت علبة سجائر ” كامل” (CAMEL)، اقتلعت منها سيجارة واحدة، وشرعت في التدخين!
وعندما انتهيت من التدخين، حاولت أن أكتب شذرياتي التي تعودت عليها!… وأنا أكتب فاجأني” سمين” لا أعرفه، كأنه نزل بالبراشوط!… جر كرسيا كما يجر كلبا، وقال:” أنا ياسيدي… الكواكب… والأراضي… والإقامات… والعقارات… والهواتف… والأحياء… والأبقار… والحمير!”… عجبا- ياقوم- السمين “مثقف!”… وقد يكون قرأ حكايات” ألف ليلة وليلة”… و” البخلاء” للجاحظ، و” بحثا عن الزمن الضائع” لبروست.
استغربت أن” السمين” حاول أن يعرف من أنا. لكن مع من (” أنت يا عمي”) “!
لم يأخذ ” السمين” مني سوى قطعة مالية صغيرة عثرت عليها في جزيرة الوقواق، وسيجارة (كامل) CAMEL.
وبابتسامة “الثعلب الذي يظهر ويختفي” تركته جالسا على الكرسي الذي اشتكى من تعذيبه!
اللوحة للفنان سلفادور دالي