قصة قصيرة: الغرفة القذرة

يوسف خليل السباعي

كل ما فعلوه بها أنهم رموا بها في دار للمسنين. ظلت عائشة البغدادي لمدة خمس سنوات تعاني من الوحدة والألم في غرفة ضيقة جدا، وكانت هذه الغرفة لاتحوى غير أشياء بلا معنى: سرير بسيط وخزانة بنية قديمة وطيفور يعود إلى الأربعينات، من المؤكد أنهم جلبوها من السوق البالي القديم. كانت عائشة البغدادي تنتظر من العاملين أو من المدير كريم الهاشمي أن يزورها ويطمئن على صحتها ويعرف طلبياتها، بيد أنه كان يدخل إلى مكتبه الواسع ويشعل سيجارا كوبيا ويدخن بنشوة ويلعب بسكين ذهبي صغير بين أصابعه.

بقيت عائشة البغدادي وحيدة في غرفتها وعيونها نصف المشدودة مشرعة على الباب، فيما كان شعرها المتطاير المتساقط يتشبث بالبقاء.

وحتى إن فكرت في أبنائها الغافلين وغير الصالحين، والذين جروها بقوة إلى دار المسنين لتعيش وحيدة في غرفة قذرة لم يفكروا في زيارتها، فكيف بالله عليكم يفكر فيها المدير أو العاملين.

لم تسلم عائشة البغدادي طيلة هذه السنوات من لسع البعوض وإزعاج الذباب، بل إنها أحيانا كان تفكر في نفسها، وتقول:” أنا لست إلا ذبابة ميتة”.

وفي صباح من الأصباح، استفاقت عائشة البغدادي على صراخ أحد العمال وهو يشتم نزيلا عجوزا بالدار:

– ” أيها الكلب… لماذا تبولت في سريرك… سترى ماذا سيفعل بوجه أمك المدير… سأبلغه بالأمر عند عودته”.

ومن المرجح أنها سمعت همهمات وبكاء حاد وخطوات العاملين العسكرية الذين لم ترى ملامحهم قط كما لو أنهم أشباح، وعندما حاولت النهوض لم تقوى على ذلك، وبقيت في السرير حاسة بأن شيئا قذرا يثقل على خاتمتها، وأدركت أن لا مقدرة لها على الوقوف، وبدأت تشعر بأن نملا يجوب جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها. وعند اختناقها من الرائحة الكريهة أقدمت على انتزاع كل ثيابها، ولكن الرائحة وبقايا القذارة بقيت ملتصقة بجسدها، وفي الثياب. وبعد ثلاثة أيام، لم يعد أحد في دار المسنين يطيق الرائحة التي وصلت إلى مكتب المدير كريم الهاشمي، فأمر العاملين بإخراجها وتنظيف الغرفة القذرة، لكنهم أهملوا أمره، ماعدا عاملة شابة فطنة رأتها حواء فغطت عورتها، وذهبت بها إلى الحمام، وحممتها بالصابون والماء الدافئ.

كانت عائشة البغدادي من عطشها أثناء الاستحمام تستروي بالماء بلاتوقف، إذ لم تكن قد شربت لمدة ثلاثة أيام. وبعد هنيهة، هوت كالسطل، وغابت عن الوجود.

Loading...