قصة قصيرة المرأة الرشيقة ليوسف خليل السباعي

أقف بثوب النوم إزاء مكتبة ممتلئة بكتب إسبانية بعضها عادية بحجم قصير وأخرى أنيقة ونفيسة بحجم طويل. أهملت القصيرة واهتممت بالطويلة. جذبني غلاف رواية لكاتب إسباني غير معروف بالنسبة إلي، إلا أنه مشهور عند الإسبان. كان الغلاف البراق يحتوي على صورة لامرأة رشيقة القامة ترتدي قميصا أزرقا مفتوحا تبرز منه قطع من نهديها، وفي فمها سيجارة شقراء، لم أدقق في نوعها. كنت في ذلك الوقت، أحدق في شاطئ لاربيرا من النافذة العالية في منزل السيدة باولا، امرأة إسبانية في الستين من عمرها لذيذة المعشر، وطيبة. لا تتكلم كثيرا، وإن تكلمت فإن كلامها تخصصه للكتاب الإسبان. وكانت معجبة أشد الإعجاب بكتب خوان غويتصلو وأرتورو بيريز ربرته، ولم أفهم حقيقة سر هذاالإعجاب، وفي بعض الأحيان كانت تسرد لي سيرة زوجها أنطونيو الذي كان ضابطا بالبحرية العسكرية الإسبانيةإلى درجة أنها تنام على الكنبة السوداء المنتفخة كبطن امرأة حامل تقترب من الولادة، والذي مرض بالسرطان ومات وهو في السبعين من عمره. وكانت تتحدث أحيانا أخرى عن أبنائها في إشبيلية وقرطبة وباريس، لكنني في الحقيقة لم أقابل أبناءها أبدا. كنت أرى صورا لهم في المنزل الشاسع الذي يحوي بابا بنية عملاقة ومطبخا مجهزا بكل الأدوات المنزلية والاستعمالات الاعتيادية والمأوفة… وما كان يثيرني أكثر هو ماكينة القهوة الواقفة مثل أبي الهول، والثلاجة الناصعة البياض المزينة بالأزهار وعناقيد العنب وبعض الرسوم المختلفة لحيوانات منقرضة، لربما، مثل الديناصور. لم أدقق فيها كثيرا. وكذلك، مائدة الطعام الواسعة وكراسيها المفعمة بالأزهار.

و في الليل، عندما كانت تنام مثل اليتيمة على الكنبة كنت أقترب منها وأحملها مثل طفلة وأدخلها إلى غرفة نومها الملائكية. كانت غرفة نومها مغلفة برمتها باللون الأبيض: السرير والخزانة وبيانو صغير والنافذة المشرعة على الشاطئ. ومن دون أن أثير الجلبة، أتركها ترفرف في أحلامها، وأمضى إلى غرفتها الخاصة الممتلئة بالكتب… أنتقي كتابا وأنا مغمض العينين وأشرع في القراءة دون رؤية الغلاف.

وعندما أنتهي من القراءة أطويه، فإذا بالمرأة الرشيقة القامة ذاتها في غلاف الكتاب، فأقع في حيرة. حاولت أن أتحقق من إسم الكاتب الإسباني، إلا أنه لم يكن هو نفس الكاتب، وقرأت العنوان… هو غيره، إلا أن المرأة الرشيقة هي ذاتها. عدت إلى المكتبة وأسقطت منها جميع الكتب القصيرة والطويلة، ودققت النظر في أغلفتها برمتها إلا أنني استغربت أن تلك المرأة كانت هي ذاتها في كل الكتب.

لم أستطع النوم بسبب التفكير في سر هذا الأمر. وبقيت واقفا غير آبه بالبرد الذي بدأ يتسرب إلى جلدي مثل أفعى، ثم، دخلت إلى الحمام ونظرت إلى وجهي في المرآة، فلم يكن وجهى، وإنما وجه تلك المرأة الرشيقة التي جعلتني مجنونا بها وأفكر فيها طوال الوقت.

وفي الصباح، حاولت أن أكلم السيدة باولا عن أغلفة الكتب وحكاية المرأة الرشيقة. ابتسمت السيدة باولا ولامست بيدها الرشيقة والرقيقة، التي فاحت منها رائحة ماء الورد، وجهي، وقالت لي:

– اصعد إلى الطابق العلوي، فقد تعثر على مبتغاك.

ولما صعدت السلم كانت ثمة صينية بها إبريق وكؤوس وزربية مغربية حمراء ومدخل بلا باب، وكان هناك أيضا مكتبة والعديد من الغرف المعتمة ومطبخ فارغ وزجاجات نبيذ فارغة، أيضا… وفي زاوية معتمة تسرب نور من غرفة مفتوحة فاقتربت بوجل… وإذا بي أرى امرأة رشيقة ووحيدة تطل من النافذة على جبل بعيد.

Loading...