بقلم : الزهرة حمودان ؛برشلونة 11 أبريل 2020
أستسلم لأيام الحجر، تحت تخدير جميل لحلم طال انتظاره، أعيش فيه بجوار نحلتي الذهبية، بعد دروب وعرة سلكناها معا.. أقرر ألا أغرق في التماهي الكلي بالوضع الوبائي الراهن.. في تحد إيماني قوي، أطلق العنان للسلام أن يغمر روحي.
أتابع إفرازات اللحظة التاريخية التي تعيشها الإنسانية؛ سياسيا مع ماتبثه وسائل الإعلام الرسمية للدول، واجتماعيا مع ما يصلني عبر وسائط التواصل الاجتماعي على علاته. أمر عادي؛ ففي ظروف كهذه، لا يحق لي أن أعيش في حجري، غير مهتمه بمن تفيض أرواحهم في هذا العالم المفتوح أمامي.
صور تبثها شاشة الأخبار؛ لجثث بأكفانها ملقاة على الأرصفة.. الغول يلفظ ضحاياه.. مازال الوباء ينفث غضبه. يبسط جناحيه مع كل ريح.. الصور كأنها تبصق في وجهي، كوني أحيا في زمن الموت..الصور تسلب الإنسانية عتاد البطولات، وأقنعة النصر..عقلي يصارع أصفاد الإعلام المتضارب بين ما هو إنساني وما هو وحشي، يعلق بالصور أو الصور هي من تعلق به، الأهم هو هذا الفزع الذي يجعلني أبصر في الظلام. الصور تصرخ.. تخبرني أن قلب الأرض محاصر..الأرض الأم ممنوعة من احتضان ابناءها العائدين إليها بعد رحلتهم المعتادة. نثرهم الموت نثرا في الأزقة وعلى الأرصفة. رحماك ربي الشمس تحتضر في القلوب.. والرجل القوي غاضب؛ الوباء كشر في وجهه..الوباء يستفزه..إنه ليس من طينة الأعداء التي يصنعها، لن تُجدِه قواميس مصطلحات مدونته، حتى يصنفه، فلا إرهاب يليق به، ولا من يشهد له بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ولا إمكانية لإنتاج سيناريو يدينه. العدو هذه المرة شبح يطوق الجغرافية بالموت، ويسم اللحظة التاريخية بعصر الوباء. الإحصائيات تستفز الطاووس الغربي. لأول مرة يرفض الصفوف الأولى..ارتفاع عدد إصابات شعوبه، تفورلها دماؤه..ينتفض بداخله عرق الأنا العظمى.
زمجرالرجل الأبيض أمام الميكروفونات..نقلت زمجراته شاشات العالم، ولم يزل الفيروس المتوج” كرونا ” يمشي مختالا وكل الأرض مستباحة لديه.
الرجل الأبيض يفتح دفاتره القديمة.
يستعيد الغرب تاريخه الوحشي، رغم ما أُسبغ عليه من مساحيق رومانسية، كي تضفي على الفوضى والعنف اللذان رافقا اجتياحاته لدول العالم، أبعادا درامية، وتزوده بمسوغات جوفاء لم تقنع يوما طفلا يحمل حجرا.. ينطلق المارد.الرجل الأبيض باني الحضارة، وراعي حقوق الشعوب،هو اليوم قرصان الجو والبحر. يعترض شحنات الأجهزة الطبية من أجل شعبه، ولتُذبح باقي الشعوب قرابين على هيكل السيد. وعلى الحسابات الإنسانية، والقوانين الأخلاقية ألف سلام.
الشرفات تعود إلى المشهد الإعلامي، وصورها تمر في غلالات حزن باكية. وجوه رهينة أمتار معلقة على الجدران، مستسلمة لحجزها. مستكفية بالحياة في حدها الأدنى.. قد تبدو يوما في الأفق مسارات للخروج من هذه المتاهة، أما الآن فلن تسعفها إلا الأحزان لتحمل هذا القيد. حركات احياء الشرفات صراخ مكبوت لأهالي جثث مبثوثة على الأرصفة. جثث لسان حالها يقول :” نلفظ أنفاسنا الأخيرة وسط هذا السواد الجاثم.. يتمدد ليل الموت على نهارات الأيام؛ ولا فجر تخبر عنه الأسحار، نلتحق فيه بمدافننا.
تأبى قوانين أمريكا اللاتينية إلا أن تسقط من حساباتها بعضا من قيمها الروحية هي الأخرى.. العيون الباردة الشاخصة، تتمزق حسرة على حق موتاها في الدفن. النظرات المتحرقة لتربة تحمي حرمتها، تشعل آلام أهاليها المحاصرين.. الوباء شيطان يحتل مابين السماء والأرض، يلهو برذاذ الموت الذي ينفثه بين الكائنات البشرية الدابة فوق الأرض..رذاذه يغمر الأجساد؛ فتتساقط كأعجاز نخل خاوية ..التداعيات تغرق الاحاسيس في بلادة غير مسبوقة..كيف ارتفعت من الأرض فجأة أبجديات الإيمان. العالم لا يكترث اليوم بالموتى.. اليوم تُسقط أمريكا اللاتينية من تاريخها منظومة ثقافية موغلة في القدم.. تنسف روابط الانسان بتلك السماء التي هبط منها . وما يسمى ب ” عيد الموتى ” أو ” DIA DE MUERTOS “، كما هو مسجل تاريخيا في لغته الأصلية، ستصيبه ثقوب في ذاكرته التاريخية؛ إنه مساس بثقافة احتفاليات لها طقوسها التي شرعنتها المعتقدات.. وأباحتها الاحتفاليات الشعبية على مر العصور.ارتبطت بالتقاليد المسيحية لعيد القديسين، وبالتقاليد الطقوسية في دولٍ كالمكسيك والبرازيل وبعض المناطق من أمريكا الجنوبية، وفيه تُكرس أعراف متوراثة عبر الأجيال. سيعلن تاريخ الثاني من شهر نوفمبر من كل سنة، حدادا أبديا، عن يوم كبير،كانت تعبر فيه أرواح العابرين إلى عالم الموتى، لتجتمع مع أحبائها من جديد.
أمريكا اللاتينية تبكي موتاها مرتين، اليوم، وهي غير قادرة على إقامة مدافن لهم، ويوم عيد الموتى، حيث لا مكان سيجمعهم يوم العيد. لن تكون هناك مقابر لهم يمكن تزيينها على عادة أهالي الموتى. الموت في هذه الأيام عبث..ولا أحد يصغي لعويل الأرض على موتاها..غدا يأتي العيد حانيا رأسه الحزين، فلا موتى يُحتفل بهم، ولا مقابر للتزيين وتقديم القرابين. بعد العيد ستصبح الصحف أيتاما لامرثيات للنشر( (calaveras) ، ولا صور كاريكاتورية تعلن انتصار الحياة..موتى غرباء محرومون من مديحهم، مزقهم ظفر وناب، وعبثت بحقهم في العيد تصاريف زمن الوباء.
وبين الحضارة التي من أهدافها؛ ان يسعى الانسان الى الارتقاء، من اجل الاختلاف عن الحيوان. والثقافة التي هي الفن الذي به يبدع به الانسان إنسانيته، يتهاوى المشهد العام للإنسانية ، معلنا الانهيار.