يوسف خليل السباعي
6- استفقت في الصباح، بعد نوم عميق، مشرق الوجه، ألقيت نظرة من النافذة على الشرفة كما لو أنني ألقي نظرة على كتاب. كانت الشرفة فارغة. لم يكن لدي أي برنامج اليوم، مع أنه ليس من الضروري أن يكون لي برنامج، غير أن رغبة القراءة كما الرغبة في كتابة هذه الرواية، التي عرفت انقطاعات متكررة منذ سنوات، كانت تجرني إلى ملامسة رواية” صنعائي” والبدء في قراءتها.
تركت الرواية تغرق في البساط الأرضي. نهضت… وقصدت المطبخ. كنت أتضور جوعا. أكلت حد الشبع، ثم اقتربت من النافذة المواجهة للشرفة. لا أحد هناك. أدركت حينئذ أن الرجل قد اختفى تاركا خلف الغرفة المظلمة عمرا مضى أو عمرا سيأتي. ولا أعرف لماذا تذكرت تلك اليد السمينة التي دفعتني بقوة للعودة إلى المنزل. يد كالحجر!… حجر ينبض بالكلمات واللعنات والإهانات. يد نيرانية! ولم لاتكون قد هبطت من عتمة الشرفة، أو خرجت من أغوار سحيقة.
كنت أدرك أن مجرد الإقتراب من الشرفة قد يصيبني بالهلع، وأعجز عن اقتحام الغرفة من الباب، ولكن هل يوجد باب- يمكنني من أن أدخل، أو، أقتحم عبره الغرفة- المغارة.
أصابتني حيرة، ولم أعد قادرا على التفكير في الأمر، لكن صوتا في أعماقي كان يدفعني إلى المغامرة، واكتشاف المجهول.
كيف ذلك؟!…وأنا لا أعرف الرجل… ولا إسمه، وقد يكون إسمه كثرة كثيرة، فما أعرفه هو أن هذا الرجل اختفى بعد أن شاهدته جالسا على كرسي متحرك.
لم أخرج من المنزل اليوم، وبقيت أفكر في اليد السمينة، وعلامات رواية ” صنعائي”، والذاكرة المثقوبة، تلك الذاكرة التي تحضر وتغيب كما تشاء كمالو أنها عود ثقاب، تاركة الريح تسافر بي إلى اتجاهات مختلفة. الذاكرة التي تستدعي الكلمات والأشياء، الأرواح والأجساد، وكل النيران، والتي تستقر الآن في تلك الطبقات العميقة من النفس- الغور الجريح… الخفي… الملغز!…، النفس المحشوة بالتناقضات، نفس سناء المنشطرة إلى الملائكي والشيطاني.
كشفت لي نسرية المالقية عن (أسرار) سناء، وهو ماجعلها تغضب كثيرا، ولا أعرف هل صفعة سناء لي كانت دافعا لأكشف أمرها أم أن هناك أمور أخرى خفية؟!…، وفي الغالب، كنت أتخيل ذاتي داخل منزل سناء وهي مرتدية قناعا كما لو أنها ممثلة تؤدي دور ساحرة في مسرحية دراماتيكية.
كانت سناء تخفي كل ذلك في ابتسامتها الساحرة. القاتلة، كما كانت تخفي ( أسرارها).
ذات ليلة رمادية، التقيت بنسرية المالقية في مقهى
“أميستاد” القريبة من مغارة ” المنكوبين” التي دمرت بالكامل. ومن خلال محادثتي مع نسرية عرفت أنهما كانا يعيشان في تلك المغارة_تذكرت في ذلك الوقت مغارة الرجل الغامض. رجل النظارة السوداء_ التي كان تحشر الفارين من الفيضانات في منازل كالكهوف.
لم أرغب في سماع قصة نسرية، لكنني عرفت بعض الأسرار. تركت نسرية وحيدة في المقهى، واختفيت، ولم ألتقي بها مرة أخرى، ربما، قررت أن تسافر إلى مالقا وأن لا تعود إلى تطوان، لكنني كنت ألتقي بصباح التي كانت تكره سناء كما تكره دم أسنانها. وما أعرفه أن صباح أقسمت أن تغتال ذلك ( الحب) الذي جمعني بسناء، والذي كنت أسميه: وقوعا في الحب!
يتبع