يوسف خليل السباعي
الفصل الثالث
سرير روكسانا
في الصباح، أدركت أن حبي لبيرخينيا قد ولد. ولد في أرض الأحلام كطفل يرى النور لأول مرة. بيد أن شعوري كان يحدثني أن هذا الحب كان صادرا من طرف واحد، هو أنا.
لم أفكر كثيرا في الموضوع ذلك الصباح، لكن رائحة بيرخينيا العطرة بقيت ملتصقة بجسدي. رائحة آسرة، لم يكن من السهل محوها من ذاكرتي وجسدي كما لو أنها سكنتهما دفعة واحدة إلى حد التوحد. كانت تلك الليلة الوحيدة التي مارسنا فيها الحب. والحق أن بيرخينيا اشتهت جسدي، كما اشتهيت أنا جسدها، الذي صرت أحمله معي في أي مكان أكون فيه، حتى عندما كنت أضاجع نساء أصادفهن في طريقي، أو يجئن إلى سريري، أو تقودني قدماي إلى سريرهن، أتخيل فيهن بيرخينيا، التي ملكت قلبي، وأصبحت أسيرا لها. وهذا الأسر كان برغبة مني، لأن ليس هناك أمتع من حب امرأة، خصوصا إذا كانت في جمال بيرخينيا.
على مائدة الفطور داخل مطعم الفندق، لاحظت الكل يرمقني بنظرات غريبة. وأدركت أن شيئا غريبا حدث جعل هؤلاء ينظرون إلي بهذه الطريقة. لكنني لم أعط للأمر أي اهتمام. تناولت فطوري على عجل، ثم خرجت إلى باب الفندق، أشعلت سيجارة ” مور”، وشرعت في التدخين على مهل، ثم حولت نظري عن الشارع لوقت قصير لأتأمل قسمات مستقبلة نزلاء الفندق. كانت واقفة، سحرتني بعينيها الزرقاوين، ونهديها الناعمين المكشوفين من خلال قميصها الأبيض الشفاف، وفي ثانية، كان الشارع قد امتلأ بالسياح اليابانيين، الذين كانوا يمشون في صف واحد، تتدلى من أعناقهم عدسات التصوير، ما جعلني أستغرب من هذا المنظر، وأضحك بصوت مرتفع، الأمر الذي جعل مستقبلة النزلاء ترمقني بنظرة غاضبة، فلم أعطها اهتماما.
بعد برهة، رميت ببصري إلى البعيد، فلمحت يابانية ترتدي قميصا أحمرا، ترغب في أخذ صورة مع نصب الثور الفحل، فأحسست بغشاوة تملأ عيني، وخيل إلي أن الثور يكسر قيده، ينتفض، ويغرز قرنيه في جسم اليابانية، فيسيل الدم من جسدها بغزارة، دم كالشلال، ولم تلبث الغشاوة تزول عن عيني، لأعود إلى جادة الصواب لامحا الثور قد عاد إلى نصبه. انتابني إحساس غريب عن الثور المأسور، الذي لا يمكن أن يبرح مكانه المرسوم له أصلا، مثلما حكم علي منذ أول يوم رأيت فيه بيرخينيا أن أظل أسيرا لها… لكنني كنت أسيرا برغبتي. وقلت في سري متسائلا: هل كان الثور سيكون سعيدا لو أن الفنان الذي هيأ تمثال الثور على هذا الشكل قد أخذ رأيه؟ ولم أعثر على أي إجابة لذلك. أحيانا، كنت أقلق عندما كان يأتي أحد، ويسألني عن علاقتي ببيرخينيا، وبغضب، أقول له ” هذا أمر لا شأن لك به”، فلا يعود للحديث في الموضوع، وكنت أستغرب من غباوة مثل هؤلاء الأشخاص الذين يتدخلون في حياة الآخرين، إذ يجدون لذة في التكلم عن الآخرين، إلا ذواتهم. فذواتهم يعتبرونها “مقدسة”. أتذكر أنني سمعت شخصا مرة في مقهى من المقاهي، يقول إنه سيحارب بكل قواه الفساد، ليصحح وضعا ما، واتضح فيما بعد أنه كان من أكبر الفاسدين في المجتمع، وأولئك الذين كان سيحاربهم، هم من أنعموا عليه، وفتحوا له أبواب الثراء. كان ينبغي له أن يبدأ من نفسه. أعرف أن الكل يلبس الأقنعة كممثلي المسرح، هؤلاء الذين يتقمصون أدوارا، وبمجرد ما يسدل الستار عن المسرحية يذهبون إلى بيوتهم، ثم يعودوا إلى لعب نفس الأدوار أو أدوارا مغايرة. فالكل يمثل على الكل في دوامة الحياة، الحياة المشحونة بالمتناقضات، والكل يكذب على الكل.
عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. وصل سائق الحافلة. خرج وشرع يدخن بتلكؤ. أشعلت أنا الآخر سيجارة “مور” وشرعت في التدخين… لكن هذه المرة كنت أسرع.
خرج الكل من المطعم. رمقتني إلينا بنظرة مرتابة، ولم تكلمني. نجيب مر من أمامي، وقال لي بعنجهية: ” لقد افتضح أمرك أيها المراهق”، فقلت له متسائلا: ” هل ضايقتك في شيء؟”، فتجاهلني، ثم صعد إلى الحافلة. صعد الكل. انطلقت الحافلة. كان لابد أن نغير القاعة، لاكتشاف الجديد، وهكذا توجهنا إلى قاعة أخرى، تبتعد بمسافة كبيرة عن الفندق، للاستماع إلى محاضرة في موضوع المؤتمر.
كان سعد والحافلة تخرم الطريق، أسر لي ما دار من حديث من طرف الرفاق عن علاقتي الغرامية ببيرخينيا ليلة البارحة، وكشف لي أن إلينا هي التي فضحت ذلك، وكشفت الأمر كله لنجيب. كانت تعرف كره نجيب لي.
والحق أن إلينا هي التي كانت تطاردني، لأضاجعها. طاردتني في غرناطة، وإشبيلية. وعندما رفضت، بدأت تخلق لي المتاعب دون أن تشعرني بذلك. كانت عندما تشاهدني مع بيرخينيا تأكل أصابعها من فرط البغض، والغيرة، وهي نفس الغيرة التي كان يشعر بها نجيب على الدوام.
إلينا لم تكن تتمتع بنفس جمال بيرخينيا، وكنت أشعر بالغل الذي تكنه لي. كانت إلينا تريد أن تظفر بجسدي، تحتويه، وتجعلني عبد رغباتها الجنسية، وشهواتها الأبدية، وكانت تشبه هاجر المرتيلية التي اصطدتها كغزالة ذات ليلة في علبة ليلية… وما إن دخلنا إلى إقامة في رأس الطرف حتى أزاحت عنها كل ملابسها قطعة قطعة مثل فتاة “الستريبتيز” التي شاهدتها في النادي الليلي بإشبيلية، وتمددت على السرير على ظهرها ناظرة إلي بعينيها العسليتين الجميلتين. كانت نظرتها غريبة، لكنها ملآنة بالرغبة، ونهداها ناعمان، وجسدها رشيق. كنا قد احتسينا كؤوسا من الويسكي، الأمر الذي جعل الرغبة تتكاثر. والحق أنني لم أقتحم جسد هاجر إلا بعد أن أعطيتها النقود، وهكذا، وهي تبتسم، وتصدر نفسا عميقا، أفرجت عن فخذيها، فتملكتني الرغبة أكثر لاكتشاف شيئها الحليق، الذي انتصب أمامي، فقبلته، ثم عصرت نهديها وقبلتهما برقة حتى وصلت إلى شفتيها، وغرقنا في نهر القبلات، ثم نزلت إلى الأسفل وقبلت قدمها اليمنى، وضممتها بشدة إلى صدري فارتفع رأسها، وانسدل شعرها الأسود الحريري على كتفها، ونظرت إلي بتلك النظرة الغريبة، الملآنة بالرغبة كأنها تدعوني إلى اقتحام جسدها، وما إن أولجت شيئي في شيئها حتى أنت، تأوهت، ثم بعد برهة أحست بلذة كبرى، ولم أنته من هذا الجسد إلا بعد أن أشبعت رغبتي، وأشبعت هي شهوتها، ومنذ ذلك الوقت وأنا أهرب منها كلما صادفتها في طريقي لحماقتها وشهوتها الوافرة.
لم أرغب أبدا في أن أضاجع إلينا. نداء ما في أعماقي كان يدعوني للهروب منها. لكن إلينا لن تنسى أبدا عدم اكتراثي بها.
اقترب وقت الغذاء. كان لابد أن يتوجه الكل إلى الحافلة، لتعود بنا للتو إلى حلبة المصارعة، لم أكن مهتما كثيرا مثل الآخرين بالحلبة، لأنني شاهدتها بالأمس. كنت أتضور جوعا، ولم يكن يهمني سوى أن ألج إلى المطعم، لم أكن أعرف إسمه، لكنني عندما أبصرت لوحة بديعة عرفت أن إسمه “لابيلاسترا ديل طوريرو”.
كان فضاء المطعم شاسعا، وجميلا، وعلى الموائد المغلفة بأغطية بيضاء توجد سكاكين وشوكات وملاعق وكؤوس، منها ما هو خاص بالماء المعدني، أو بالنبيذ الإسباني، أو بالبيرة، التي عادت ما توضع في غراف زجاجي شفاف، وقطع صغيرة من الخبز. كان الندل، رجالا ونساء، يرتدون ألبسة موحدة، سروال أبيض، قميص أبيض كذلك، وجيلي أسود. ما أثارني خلال النظر إليهم بتمعن هو شعرهم الأسود المنظوم والممشوط بدقة مثل شعر مصارع الثيران.
في غضون ثواني، امتلأت قاعة المطعم. دخل الكل. ها هي بيرخينيا الجميلة تمشي كغزالة. كان ماكياجها خفيفا، لكن أناقتها كانت أخاذة. جلست بالقرب مني، تبعتها إلينا، فيما راحت كارمن لتجلس بالقرب من سعد وجلال وإبراهيم وكارلوس. وبعد برهة دخل نجيب وخافيير ليجلسا معنا.
وبوقاحة، ولكي يضايقني جلس نجيب بالقرب من بيرخينيا، التي لم يرقها الحال، فعبرت عن ذلك بنظرة غاضبة، لكنني حاولت أن ألطف الجو، وقلت لها: ” جلوسك بالقرب مني يسعدني كثيرا، ويجعلني أكثر حبورا”، فضحكت، وقالت: “إنه نفس الإحساس الذي ينتابني عندما أكون بجانبك”.
تمنيت لحظتها أن أسند رأسي على شعر بيرخينيا الحريري، وأنام، وأشم عطرها، الذي يغوي الكل. كان عطر بيرخينيا ساحرا، لا أحد يقدر على احتماله. كان مشهيا إلى حد كبير.
كنت أدرك أن نجيب يريد أن ينتقم مني، وأنه كان يتحين الفرصة ليهجم علي، أو يفضحني، ولم أكن أبالي كثيرا بالموضوع، لكنني فكرت أنه سيكشف أمام إلينا، التي تعرف، وخافيير، علاقتي الجنسية في تلك الليلة مع بيرخينيا، كما كنت أعرف أن إلينا ستتشفى مني، وهذا شيء لن أطيقه أبدا.
في هذا الوقت، نظرت صوب إبراهيم. كان منهمكا في حديث ثنائي مع كارلوس، الذي كان يضحك وهو يمسك بيده اليمنى سيجارة مارلبورو، فيما كانت كارمن ماسكة شعرها بيدها اليمنى، وسيجارة بيدها اليسرى، وتتكلم بصوت مرتفع مع سعد الذي كان يضحك، وجلال الذي كان ينظر صوب المطبخ في انتظار خروج الندل ليسجلوا ما يرغب كل واحد منا في تناوله من طعام. اخترت أنا ” ذيل الثور”، بيرخينيا هي الأخرى اختارت نفس الشيء، وامتلأت الموائد بهذا النوع من الطعام اللذيذ، خلا نجيب وإلينا اللذين اختارا أكلة سمكية. كنت قد تذوقت ” ذيل الثور” في أحد المطاعم بإشبيلية، وراقني طعمه الشهي. وأدركت في الحين أن نجيب وإلينا بتناولهما لطعام مختلف يضعان نفسيهما خطا في صف معارض لي. وفي الوقت الذي كان الكل منغمسا في الأكل، قال نجيب: ” لدي خبر مهم، ولا أجد أي فرصة أخرى لأقوله غير هذه. تعرفون أن يحيى لم يعد مراسلا صحفيا لجريدة ” الفجر”…، ثم شرع في الضحك بلا توقف، إلينا هي الأخرى ضحكت دون أن تفهم. وبعد برهة، ساد صمت، وتبادل للنظرات البريئة وغير البريئة، وبحركة رفيقة من يدها اليمنى، ونظرة ثاقبة، قالت بيرخينيا متسائلة: ” هل تم طردك أنت الآخر؟”. قلت لها بصوت مرتفع:” لا، أبدا، الأمر مختلف عندنا، فالجريدة توقفت، لأن ممولها أراد لها أن تتوقف بسبب منصبه السياسي الهام جدا”. وحاولت ألا أتكلم كثيرا في الموضوع، لأن هؤلاء الإسبان لا يهمهم ذلك في شيء، وأنا أعرف نجيب الحاقد، الذي لم يرقه أبدا اشتغالي ب ” الفجر”. والحق أن الجريدة كانت معارضة للحكومة، وتنتقد بشدة سياسة رئيس الحكومة الجديد، وهذا أمر جعل البعض يتحرك لذبحها. لم أندم على توقف الجريدة، وأخذت بعد خروجي منها فترة راحة حيث تعرفت فيها على فاطم في علبة ليلية بالمضيق، لكنني مازلت إلى الآن أمارس عملي الصحفي في جريدة أخرى.
استمررت في تناول طعامي في هدوء، وبشهوة لا مثيل لها، واحتسيت المزيد من البيرة دون أن أعير اهتماما لنجيب، الذي كان يأكل بشراهة، وهذا ما جعل بيرخينيا تتقزز من منظره كما لو أنه لم يأكل منذ سنة.
لم أعط أية فرصة لنجيب وإلينا ليتكلما عن علاقتي ببيرخينيا، التي دعوتها لتناول سيجارة في باب المطعم. وعندما بدأنا ندخن، قلت لها: ” إن ما قاله نجيب صحيح، لكنه قاله أمام الجميع ليحطمني”. وفي دقائق فتحت لها قلبي ورويت لها قصتي مع جريدة قديمة عملت مراسلا صحفيا لها لمدة طويلة، لكنني غادرتها، لأنني لم أعد أجد مكاني بين طاقمها. وبنظرة حانية، قالت بيرخينيا:” أنت غادرت عن طواعية، جريدتك القديمة، فيما أنا طردت من جريدتي في طرفة عين كما لوأنني لم أعمل فيها أبدا”.
قلت: ” النسيان وحده قادر على أن يجعلنا نبدأ حياة جديدة”. ضحكت بيرخينيا، وقالت لي: ” أية حياة جديدة تتحدث عنها يا يحيى، إنك تحلم، فالأزمة الاقتصادية طحنت الكل، والمستقبل غامض”. لم أرد عليها، واكتفيت بالنظر إلى الساحة الكبيرة المجاورة للمطعم والحلبة، وقلت في سري: ” إنني في أرض الأحلام، ومن حقي أن أحلم، ولن يوقفني أحد عن الحلم، إنه حقي الأبدي”.
خرج الكل من مطعم ” لابيلاسترا ديل طوريرو”، ثم ركبنا الحافلة التي أعادتنا للتو إلى الفندق، وهكذا سارع الجميع للدخول إلى غرفته استعدادا لسهرة الليل، مع أنني أعرف أن كل واحد سيكون له برنامجه الخاص، وهكذا، وبدون اتفاق، كنت على يقين أن سعد وجلال وأنا سيكون لنا برنامجنا الليلي الخاص، مع أننا لم نتكلم في الموضوع.
ليل روندا له سحر خاص، وجمال نادر، بل إن سماءها المغلفة بالنجوم تضفي على هذه المدينة سحرا أكبر وجمالا قل نظيره. كان لابد لي بعد خروجي من غرفة الفندق أن أتجول لوحدي، لأستمتع بهذا الجمال النادر، وهذا الهدوء الذي لا يكسره إلا صخب المقاهي والحانات والمارة، في انتظار وصول وقت العشاء. وبما أنني أحسست بإرهاق شديد، لأنني لم أكن أستمتع بالنوم، عدت للتو إلى الفندق.
كانت موظفة الاستقبال لوحدها، صافحتها، وهو شيء لم يسبق لي أن فعلته مع أي موظفة من هذا النوع، فردت بابتسامة خجولة، ووقفت تنظر إلى الفراغ، أو إلى شيء لم أميزه. كان الفندق دافئا. جلست على أريكة شاسعة مقابلة لموظفة الاستقبال، وأمسكت بجريدة إسبانية. لم تكن لدي رغبة في القراءة، أو متابعة الأخبار، غير أنني كنت مشغوفا بإبصار الصور، وأنا أقلب الصفحات الواحدة تلو الأخرى، توقفت عند صورة بشعة لمقتل القائد القذافي. تأملت الصورة لبضع دقائق، ثم أقفلت الجريدة، ووضعتها على المائدة، وقلت في سري: ” لقد انتصر الثوار، لكن قتلهم للقذافي بتلك الطريقة البشعة كان مؤلما” ثم فكرت مليا، وقلت أيضا في سري: ” هذا هو مصير كل حاكم طاغية”. أحسست بإرهاق، وبسغب.
كان موعد العشاء قد وصل، وفي هذه الأثناء، نزل الكل… ودخلوا إلى المطعم. من بين الكل، لمحت بيرخينيا تجلس في مائدة لوحدها، كان ماكياجها ثقيلا هذه المرة، ترتدي فستانا أسودا يبرز نهديها الناعمين، وتضع شالا أحمرا على كتفيها، يتواءم مع أحمر الشفاه، فيما ينسدل شعرها الكثيف الحريري على ظهرها. والحق أقول لكم إنني كنت أرتاح للغاية عند جلوسي بالقرب من بيرخينيا. كنت أحس بعطرها ينساب إلى فمي ويخترق جسمي، فأحس برعشة.
كان لباسها الليلة جميلا، وأنيقا. كان يوحي لي بأن بيرخينيا مدعوة لسهرة الليلة، ولم أحب أن أسألها عن ذلك، فلكل واحد منا خصوصياته، وهي أيضا لم تسألني عن برنامجي الليلي. لم يهمني أمر نجيب أو إلينا، ولم أهتم بأحد هذه الليلة. بيد أنني كنت أعرف أن سعد وجلال لن يتركاني هذه الليلة لوحدي. وبإشارة من يده دون أن يشعر به أحد، وعند الانتهاء من العشاء، فهمت أن سعد يريد مني الخروج من المطعم، وهكذا خرجت، فتبعني جلال، إلى باب الفندق، وقال لي سعد: “اتبعنا”. إلى أين… لا أدري. المهم أنني تبعتهما، وأنا نشوان، فلقد شربت ثمانية زجاجات من البيرة، وكنت أفضل هذه الليلة أن أنسى بيرخينيا، وأنام في حضن عاهرة ما… أي عاهرة. وسألت نفسي: ” هل سأفعل ذلك لأنسى بيرخينيا التي لن تنام في حضني الليلة؟”. لا أنكر أن الشيطان قال لي: ” إن بيرخينيا ستنام الليلة في حضن رجل آخر”، ولم يكن من الممكن استبعاد هذه الفكرة، التي انغرست في ذهني بهوس، ولم يكن من السهل محوها بسهولة. لكن جلال وسعد كانا يضحكان، لشعورهما بالسعادة، والحرية، على طول الطريق المؤدي إلى علبة ليلية توجد بين مطاعم وملاهي وحانات روندا الفاتنة.
كانت العلبة الليلية مملوءة بشبان وشابات إسبان، ولا يوجد أي مغربي سوانا نحن الثلاثة. كان اللونان الأسود والأحمر يطغيان على هذه العلبة، ذكرني بعلبة “كولدن بيتش” الليلية بالمضيق، وكانت الموسيقى صاخبة، وشبان وشابات يرقصون، ويضحكون… طلبت من البارمان كأس ” ويسكي”، بينما طلب كل من سعد وجلال كأسي “فودكا”.
كنت أرغب في تغيير مذاق الشراب هذه الليلة، ذلك أنني لا أحتسي بعد البيرة سوى ” الفودكا”، وهو أمر اعتدت عليه، خصوصا حينما أكون في علبة المضيق. لكن هذه الليلة سيكون لي مع الويسكي قصة أخرى. لم أتوقف عن الشرب، إلى حد أنني احتسيت أربعة كؤوس من “الويسكي”، فأحسست بدوار أبدي. اتخذت لي مكانا قريبا من حلبة الرقص، وشرعت في تأمل الراقصين المخمورين. كان سعد يرقص هو الآخر، فيما جلال خرج إلى باب العلبة وهو يترع من شرابه. قلت في سري: ” إنه يدبر لأمر ما”، ولم أعرف ما هو ذلك الأمر حتى اللحظة. استرعت انتباهي فتاة إسبانية جميلة واقفة قرب الحلبة، فيما شابان يريدان الظفر بها.
كان الأول أشقر الشعر، يرقص بطريقة مضحكة، ويحرك يديه صوبها، كأنه يدعوها للرقص معه، مثل بطل فيلم هندي، بينما الثاني كان أسود الشعر يريد أن يضمها إلى صدره بقوة، وهي تصده. بيد أنه لم يتوقف عن ذلك، فصرخت بوجهه بكلمات إسبانية لم أسمعها جيدا. كنت أتابع هذا الصراع على امرأة، من دون أن يواجه الأول الثاني، إذ لم يتكلما مع بعضهما، وكل واحد منهما عبر عن حبه، أو رغبته في المرأة بطريقته الخاصة. لكن الفتاة الإسبانية حسمت الأمر بأن تجاهلتهما وراحت صوب الكونطوار لاحتساء شرابها المفضل. في هذه اللحظة، فكرت في جلال الذي خرج ولم يعد. كنت أعرف أنه لن يتركنا أنا وسعد لوحدنا، ولم أتخيل أنه يخطط لأمر ما، لكنني خمنت أنه يبحث عن نادي ليلي في روندا، لا نعرف مكانه. أشرت برأسي إلى سعد، الذي كان غارقا في الرقص وسط فتيات إسبانيات كما لو أنه يبرز مهارته في الرقص حتى يلفت انتباههن إليه، ليتبعني إلى الخارج. لكنه لم يعطني اهتماما، فذهبت صوبه، وحضنته، وأنا أهمس في أذنه اليمنى: ” اتبعني إلى الخارج في صمت”. خرجت إلى باب العلبة الليلية، تبعني سعد، فأبصرت جلال واقفا مع حارس العلبة، كان هذا الحارس الذي أجهل إسمه، يتكلم مع جلال، ولم أعرف سر الموضوع الذي يتكلمان فيه، غير أن سعد قال لي: ” إن جلال يبحث عن عنوان نادي ليلي”، قلت له: “إنه لم يحدثني في الموضوع”، قال: ” كان يريد أن يتركها مفاجأة لك”. بعد برهة، أشار جلال برأسه لنتبعه، إلى أين… لا أدري حتى الآن. وعندما خرجنا وجدنا سيارة أجرة بيضاء بخطوط زرقاء واقفة في الطريق، ينتظر سائقها فقط أن نصعد إليها لتنطلق، إلى أين… لا أدري.
في الطريق كان جلال يتكلم مع السائق، ثم ساد صمت للحظة، لأفهم أن السائق دل جلال على ناد آخر، فالنادي الأول لا توجد فيه إلا ثلاث عاهرات، وهو شيء لا يحبه جلال، إنه يريد الكثرة. تذكرت كيف ضحكنا نحن الثلاثة على نجيب، الذي أعطيناه عنوان النادي الأول، الذي لا توجد به سوى ثلاث عاهرات، وراح إلى هناك ليعود منزعجا، كارها نفسه، بينما كنا سربنا الخبر للكل. وهكذا تحطم قلبه، وظل غاضبا، حيث رأيته يضرب الهواء برجله اليمنى مثلما كان يفعل الملك فاروق حين يحتدم غضبه.
كانت سيارة الأجرة تخرم بساط الطريق.
الطريق فارع، ومجهول، على الأقل بالنسبة إلينا، وليس بالنسبة إلى السائق، الذي يعرف، بطبيعة الحال، الاتجاه الذي يسير فيه. والغريب أنني لم أفكر في بيرخينيا إطلاقا، لكن خيل إلي ساعتها أن ثور الحلبة فك قيده، وتمرد على نصبه ليراقب مثل جاسوس كل تحركاتنا، ولم أكن قادرا على نفي وجوده بيننا، وعندما حدثت سعد وجلال في أمر الثور، وقلت لهما بهوس: ” إن الثور يتبعنا إلى النادي”، شرعا في الضحك، ولم يتوقفا عن ذلك، إلا بعد إحساسهما بتضايقي من ضحكهما علي. وبنظرة غير بريئة، قال لي سعد: ” لقد أفرطت يايحيى في الشرب”، بينما حدجني جلال بنظرة واثقة، وكأنه يوجه كلامه لأحد آخر، قال: ” إن الثور يستوطنه، وليس من السهولة الانفكاك منه”. لم أهتم إطلاقا بما يقولانه، وكتمت حنقي. كانت لدي رغبة في تدخين سيجارة” مور”، لكنني خشيت أن يغضب سائق التاكسي من تصرفي، ففي إسبانيا ممنوع التدخين في الفنادق، والمطاعم ، والحانات، والتاكسيات…، فلم أفعل… وأحسست بدوار…، لكنني قاومته، واستعدت عافيتي، وفي هذه الأثناء كانت السيارة تدخل في نفق مظلم، ولم أعد أرى شيئا سوى نقطة ضوء طفيف من بعيد. وبعد برهة، اخترقت السيارة طريقا به أشجار، فقط أشجار، لم أميز نوعها، أشجار طويلة، سامقة، تخفي وراءها ناديا ليليا لم أعد أذكر إسمه، برغم أن جلال نطق إسمه قبل وصولنا إليه. نزلنا من السيارة، نقدنا السائق، الذي غادر المكان من دون أن ينبس ببنت شفة، وألقينا نظرة مقتضبة على الساحة الخارجية للنادي. كانت توجد بها هي الأخرى أشجار… ومقعد حجري طويل، يسمح للزبون بأن يلقي نظرة من خلاله على نوافذ غرف النادي الحمراء، والمدثرة بستائر بيضاء شفافة أشبه بشاشة السينما الكبيرة، لكنها لا تظهر تماما ما يحدث في هذه الغرف، تظهر فقط ظلالا.
دخلنا إلى النادي. كانت الموسيقى صاخبة… استرعى انتباهي شرذمة من العاهرات، أغلبهن من البرازيل والبيرو، وإفريقيا، ولا توجد أية عاهرة إسبانية هناك. لكن كانت هناك رومانية وأوكرانية، عرفتهما من ملامحهما، و صاحب النادي وبعض الشبان الإسبان، ورجل في الستين من عمره كسا رأسه الشيب.
اقتربت من الكونطوار، طلبت كأس ويسكي، بينما طلب سعد بيرة باردة، واختار جلال أن يشرب كأس ” فودكا”، وبانحناءة من رأسه دون أن ينظر شطر العاهرات، راح صوب ماكينة الألعاب، وشرع في اللعب غارقا في أحلامه. وأنا أرتشف من كأسي المترع ببطء، رمقت سعد يدخل إلى إحدى الغرف من المدخل المجاور للكونطوار مع عاهرة برازيلية. شعرت بالوحدة، فأشعلت سيجارة “مور” وشرعت في التدخين بشكل بطيء. كانت فتاة ليل رومانية ترمقني بنظرة حانية، لكنها ملتبسة، تخفي سرا ما، اقتربت مني مبتسمة، وهي تضع يدها اليمنى الرقيقة على صدري، قالت برقة: ” حبيبي”، فأصابني عجب، وقلت في سري: ” من علم هذه الفتاة لغتنا…”، ثم لم أفكر في الأمر، لا أخفي أنني استحسنتها، ومع كثرة الشرب، قررت مجامعتها الليلة، والذي جذبني إليها أكثر فأكثر هو أنها ظلت ممسكة بيدي اليمنى، كما لو أنها تدعوني إلى مرافقتها للسرير. كانت رغبتي في مجامعة الفتاة تكبر مثل بالون منتفخ، رغبة أقوى من كل شيء. وبرغم أنني لم أتكلم معها إلا قليلا، سألتها، وأنا أحتسي كأس ” ويسكي” ثان، عن إسمها، فأنا لا يمكن لي أن أنام في حضن امرأة من دون أن أعرف إسمها، ولوكان إسما مزيفا، فقالت ” روكسانا”. راقني إسمها، وتذكرت أنس. قال لي أنس ذات صباح صيفي إنه حين انتهى من مجامعة عاهرة اصطادها من علبة ليلية، لم يسألها عن إسمها، فما كان يهمه بالدرجة الأولى هو أن يحتوي جسدها. فالإسم بالنسبة إليه هو آخر شيء قد يفكر فيه أو لا يفكر فيه أبدا.
دعتني روكسانا لمرافقتها إلى غرفتها. كنت قد دفعت النقود – 50 أورو- إلى صاحب النادي… الذي قبضها بسرعة، ثم عددها. في هذه اللحظة، دلفنا إلى غرفة صغيرة، بعد أن مررنا بكولوار ضيق، ومطبخ صغير، لا توجد به الكثير من الأواني، فقط سكين كبير منتصب فوق مائدة خشبية بنية كبيرة يكاد يقع على الأرض. لا أخفي أنه انتابني هلع، بيد أنني تمكنت من التغلب عليه، أو، حتى أكون صادقا، هي الرغبة العملاقة التي تمكنت من التغلب عليه. الرغبة في مجامعة هذا الجسد الروماني الطري كالماء.
كانت الغرفة صغيرة. سرير. مرآة، وحمام ضيق… دخلت روكسانا إلى الحمام، ثم خرجت عارية مثل حواء، فانتصب شيئي… ابتسمت روكسانا، ووضعت يدها اليمنى على مؤخرتي. بعربية وبخفة، قالت “حبيبي … أنا أميرتك الآن “، بينما وضعت أنا يدي اليسرى على نهدها الأيمن وقبلتها بعمق، فاستجابت لنداء الرغبة الغائرة، وما إن شرعت في فض أزرار قميصي الأزرق، وإزاحة سروالي الرمادي حتى انطفأ ضوء الغرفة، فشعرت بارتياع غريب، وأبعدتها بيدي اليمنى بقوة، فصدرت عنها صرخة، وحاولت الخروج من الغرفة متجها إلى الباب التي حفظت مكانها دون أن أعط اهتماما لسروالي الذي بقي عالقا بين رجلي، ولقميصي… المفتوح، فتحركت روكسانا بسرعة ووقفت عند باب الغرفة، ومنعتني من الخروج، وهي تقول لي: ” لا تخف حبيبي…”.
كان الظلام يغلف الغرفة، ولكنني كنت أرغب في الخروج، فأنا عادة ما أفضل مجامعة أي عاهرة في الضوء، لأرى جسدها وأكتشف كل جزء فيه. أما في الظلام، فسأكون كمثل من يحفر قبرا، ولا أدري ساعتها لماذا تذكرت وجه الثور، و السكين اللامع بالمطبخ. وبعد هنيهة، جاء صاحب النادي وأشعل الضوء، ثم خرج من الغرفة وهو يضحك.
كانت ضحكته غريبة، وملتبسة.
لكن الخطير في الأمر، وبعد أن أزحت عني كل ثيابي، هو أن شيئي هذه المرة لم ينتصب، فشرعت روكسانا في استنهاضه بطريقتها الخاصة، وهنا أحسست بولادة الرغبة التي اندثرت بغتة. فأولجت شيئي في شيئها، وحرثت جسدها، ولم أنته منه إلا بعد أن أشبعت رغبتي الغائرة.
أحسست بانشراح، ولم أسأل روكسانا عن إحساسها، لكنها بادرت بالقول بعربية واضحة: ” حبيبي أنت تجامع جيدا”. فقبلتها في شفتيها برقة. وقلت لها: ” وداعا حبيبتي… سريرك، رغم بساطته، جميل”.
هل فهمت روكسانا ما قلته لها؟ لا أدري… لايهم… لكنني استمتعت الليلة جيدا، وحققت رغبتي الجنسية، محاولا نسيان بيرخينيا التي أسرتني بحبها.
لكن، هل من السهل نسيان حبي لبيرخينيا الذي ولد في أرض الأحلام؟
عندما خرجنا من الغرفة. راحت روكسانا صوب رفيقاتها، كانت واحدة سمينة، والأخرى، الأوكرانية، رقيقة، وطويلة مثل زرافة، لكنها كانت أجمل من روكسانا، وبعد لحظة انضممت إليهن، ووزعت عليهن سجائر “مور”، فصرخت السمينة:” موري”… وضحك الكل، حينئذ، رحت صوب الكونطوار، وطلبت كأس ويسكي ثالث، وفي هذه الأثناء جاء سعد ليأخذ مكانا بجانبي، علمت من كلامه أنه ضاجع الفتاة البرازيلية من مؤخرتها، فقلت له: ” هل كان ذلك لذيذا؟”، قال: “نعم…”، ولم ينبس ببنت شفة. شربت كأسي المترع بشراهة، ولم أتمالك نفسي. أحسست بدوار، وتقيأت… كان المنظر بشعا، لكن لا أحد تقزز من ذلك المنظر سوى الرجل الذي كسا رأسه الشيب، والذي تلفظ بكلام غير مفهوم كما لو أنه شتمني، لكن جلال، رد عليه بكلام جارح، قال له: ” أصمت… أيها الوغد وإلا حطمت وجهك”، ثم قادني إلى الحمام، فنظفت ملابسي بالماء، وتبولت، ثم خرجت، ورحت صوب الكونطوار وأشعلت سيجارة “مور” وشرعت في التدخين، وأنا أنظر إلى روكسانا، التي ظلت تنظر إلي باستغراب، لكنها لم تنبس بالكلام.
ودع جلال ماكينة الألعاب. علمت فيما بعد أنه خسركل نقوده.
خرجنا من النادي… وجلسنا على المقعد الحجري الطويل ننتظر وصول التاكسي… كان ظل الأوكرانية يبرز من خلال ستار الغرفة الأبيض… نفس الغرفة التي مارست فيها الجنس مع روكسانا. “لكن أين هي روكسانا؟” – سألت نفسي- وأدركت أن هذه الغرفة متبادلة بين الفتاة الأوكرانية وروكسانا.
اتصل جلال بسائق التاكسي، الذي لم يتأخر. ركبنا التاكسي، الذي اخترق الظلام باحثا عن نقطة ضوء. خيل إلي أن الثور يتبعنا، لكنني استبعدت هذه الفكرة. فلم يعد يهمني الآن سوى العودة إلى الفندق لأنام.