محمد بشكار: مِنْ جِدارٍ نخْرُجُ لِجِدارْ !

بقلم: محمد بشكار

أعْجبني تصْريح أحد السياسيين يُشرِّح بِمْبضَع السُّخْرية تدهْور الوضع الجريح، فقد اخْتصر الصِّراع الوجودي للمُواطن الذي اعتقلتْه الجائحة، في المسافة الفاصلة بتوتُّرها بين الثَّلاجة والتلفزيون، لنفهم أنَّ المواطن يستمر في مدِّ أذنه إصغاءً لتحذيرات نشرات الأخبار الرسمية وينكمش مُمْتثِلاً تحت عباءة الوعِظ الإعلامي، ما دامت رفوف الثلاجة ملأى باحتياطي الطَّعام، لكن بمُجرَّد نفاد المؤونة وتوقُّف المعُونة، ستُطوِّح اليد رغم قِصَرِ ذات يدها بالتلفزيون من النافذة، وما ذلك إلا لأنَّ صوت البطْن الشبيه بنداء الوطن، أقوى من أصوات كل القنوات، لقد فطن الجميع أنَّ صبيب الخطاب الرسمي لا يتدفق عارما بالشعارت التجميلية للصَّدْع، إلا حين يحتاج الدماغ لغسيلٍ أنصَعْ !

صوتُ البطن لا يَسمع إلا وهو أصَم ولا يَرى إلا وهو أعمى، ولا تبقى نشيطة في كل الجسم الذي تغْلي عروقه وتضُخُّ من الأوْداج دخان الغضب، إلا حاسَّة الشَّم حين يشْوي أحدهم أسْيَاخ اللَّحم بينما جاره الفقير يشْتوي من الجوع طاوياً، ولا أعرف إذا كانت بطاقة (راميد) التي تُعتبر شهادة احتياجٍ جديدة، ستُمكِّن العاطلين شهوراً من شراء الكبش وعيد الأضحى على الأبواب، لقد فَتحتْ الثلاجة أبوابها مِلْءَ الفراغ بكل الأصوات الموْصُولة بِقرْقَرة الأمعاء، وما زالتْ ميكروفونات التلفزيون تُكمِّم أفواهها بِقِطَعٍ بلاستيكية خشْية انتقال الوباء عبْر الصوت والصورة !

أمَّا عنِّي، وبعد أن أصاب الدم في العروق ما يُلوِّثُ المياه حين تفْقِد مجراها الطبيعي في البراري وتغدو آسنة، فقد استبشرتُ خيراً وشِعراً أيضاً بقرار رفع الحجْر الذي استمرت شرنقته لأكثر من ثلاثة أشهر أي من 16 مارس إلى منتصف ليلة 24 يونيو 2020، سأُطْلِقُ ساقيَّ ملء الرياح لأصْطَفَّ إلى جانب هذا الخروج الغفير ونفسي تُحدِّثني أنه الجهاد الأكبر، فما من شاعر إلا ويسْتمِدُّ كباقي المواطنين قُوتَه اليومي كما يسْتلهِمُ حيويَّته الإبداعية من الحرية، ولا أكذب إذا قلتُ إنِّي ما زلت مستاءً من التَّقْسيم الذي وزَّع بلدي لمنطقتين واحدة موبوءة وأخرى سليمة تتماثل للشِّفاء، واحدة يتمتَّع المواطنون في ربوعها بحرية التَّنقل إلى أبعد حلاق وأخرى كل سكانها في معتقل، هذا التقسيم إلى بلدين ونحن في نفس البلد كان يمكن لِمَنْ خذلته الكفاءة أن يسْتعين بأوسع منه خيالا ليصيغ جملة مفيدة تتلاءم مع الوحدة الوطنية، أو يكتفي في توزيعه الذي يُحاصر الجائحة بمنطقة حمراء وأخرى خضراء نسْبةً للرَّاية التي تجمعنا، ألسْنا جميعاً في السفينة وباءً، ولا أنْكر أنَّ تقسيم البلد على هذه الطريقة التي تشي بعقلية استعمارية، قد امتدَّ بجراحاته النفسية من الأرض إلى المواطن، فما من أحدٍ بالبلد إلا واستشْعر الخطر كما لو تنْقسِم النفس عن الجسد !

لكن مهلا .. نعْلَمُ أن الأجْراس تُقرَع بشِدَّة في البِحار كُلَّما تجاوزتِ الموجة عُلُوَّ موجةٍ سَبقتْها، كذلك وبِنفْس الحِدَّة تدقُّ حالياً مُنظَّمة الصِّحة العالمية ناقوس الخطر وهي تحذِّر من تصاعد وئيد لموجة ثانية من فيروس كورونا، ولكن حكومات البلدان تستقبل تحذيراتها بأذن طرْشاء من عجين، وما ذلك إلا لأنَّ أمريكا اسْتَبْخستْ من قيمة معلوماتها التي لا تقدِّمها للعالم إلا بتواطؤ مع الصِّين، ونعلم أيضاً أن بعض العلماء الشُّرفاء والأحرار الذين لم يُغْرِهم الدولار لكتْم الأسرار العلمية خدمةً للمصالح السياسية لبعض الرؤساء المُلقَّحين، ما فتئوا يحذِّرون أيضاً من التَّفشي المًستمر للوباء وأنه قد يتطوَّر إلى نُسخ أذكى وأخطر، وأنَّ تاريخ الجوائح يزْخر بِأبْلغ العِبَر وأمْكرها، كل هذه التحذيرات من جهات مُتخصِّصة في صحة سكان العالم نفهمها، لكن ما يسْتعصي على الفهم لمصلحة من اتُّخِذ فجأةً قرارُ رفْع الحجْر، هل لصالح المواطن المَوْرِدِ البشريِّ المقهور الذي يُحرِّك عجلة الاقتصاد بأبْخس الأجور، أم لجيْب من يدافعون على أطروحة تحرير العباد من ضنك الحجْر، لإنقاذ جيوبهم الشَّخصية المتوزِّعة في أسهم مالية وشركات في أكثر من قطاع اقتصادي بالبلاد؟

عجبي، فجأة غابتْ كورونا من كل الأخبار لتُصْبح في خبر كان، لستُ مُنَجِّماً ولا أعطس في المنديل، ولكن الإخْراس المُريب لصوت العلماء رغم تحذيراتهم أن الجائحة في موجتها الثانية ستخلِّف وضْعاً أسوأ، ورَكْنهُم كالأشباح مع وِزْراتهم البيضاء في الصفوف الخلفية ولو مُؤقَّتاً في انتظار اكتشاف لقاحٍ يصْلُح للاتِّجار، هو من صنيع مافيا رأسمالية عالمية تخْشى على إمبراطوريتها المالية من الإفلاس، ولن تُشْبع جَشَعها المتوحِّش إلا بِدفْع النَّاس للخروج إلى القبر بعد أن كانوا سالمين في الحجْر !

قلتُ مهلا.. ولا ننْزِلق كما لو نَرْكَبُ صابونةً باتِّجاه ما يُضلِّلنا من دوَّامات في المجاري، لا نبْتلِعْ طُعْمَ التصوير البديع للسياسي وهو يوجز صراعنا الوجودي بين ثلاجة وتلفزيون، لأن التجربة علَّمتنا أنَّ بعض السِّياسيين بعد أن عَبَروا على كتف الشَّعب لمواقع النُّفوذ، قدْ اسْتبدلوا المواقف النِّضالية بأكياس المعالف دون ضمير، ولم يعُد يظهر من وجُوههم التي أصبحت بأكثر من وجهٍ وهم يعْلِفون، إلا ما يظهر من رأس الأتان وهي تبعث إشاراتها السعيدة بأطْوَلِ الآذان، فمهلا.. الأفضل أن نبقى في الدَّار ولو دوَّت كلما فتحْنا الثَّلاجة صفَّارةُ الإنذار!

* حُرِّر يوم الثلاثاء 23 يونيو 2020 بالحَجْر المنزلي بمدينة الصخيرات.

Loading...