أَوْرَقَتِ الأكْشاك بالمُلْحق !

محمد بشكار

أعْترف أنِّيَ لسْتُ من النَّوع الذي يكتفي بالنظر مُتملِّياً وجه من أحِبُّ مكتوف الأيدي والأرجُل أيضاً، وإذا كان ذلك عيباً فذلك من دواعي اعتزازي، ولستُ مُغالياً حين أُمْعِنُ في القول إنَّ ذراعي تسبقني هارعةً إلى العناق، لكأنَّها تريد أن تطفىء نار الشوق بنار أشدَّ يُلْهبها اللمْسُ الذي يحققه اللقاء بردا وسلاماً، وهاهو الموْعد المُؤجَّل الذي طال انتظاره وتغلَّبْنا على جنونه بقوة الأمل، يُصبح واقعاً ملْموساً مع هذا العدد من مُلْحَق “العلم الثقافي” الذي نزل مع الجريدة ورقيّاً إلى الأكشاك، أجَلْ طال الأمد بآخر لقاء مع المُلحق، وصار بطوله الحجْر الصِّحي جُحْراً مرضيّاً، بعد أن امتد لأكثر من خمسة أشهر فاصلة بين 19 مارس تاريخ الانغلاق ويومه الخميس 16 يوليوز 2020 موعدا ثقافيا للانعتاق !

لكن مهلاً، ماذا لو أتيْنا للقول من الأخير كما تعوَّد البعضُ أنْ يأتي إلى الخروف من الذيل ليقيس مدى سَمَانته، وتساءلْنا ما الفرح في عودة كل الجرائد بالبلد إلى صيغتها الورقية بعد الرفع التدريجي للحجْر الكوروني، على الأقل النشر الإلكتروني الذي جاء نتيجة اشتغال الصحفيين عن بُعد قريبا من الجائحة، وفَّر التكاليف الباهظة للورق والتوزيع الذي يمضي أدراج الرياح بدون أرباح، وما ذلك إلا لأنَّ صحفنا لا تتجاوز في مبيعاتها مُجْتمعةً في جلسة مقهى مائتيْ ألف نسخة، وما أبْخس هذا الرقم حين نعلم أن صحيفة واحدة قد تتجاوزه إلى المليون ببعض البلدان التي لم تسبق كورونا لتكميم الأفواه!

لن أترك نفسي نهْباً لِما ينغِّصُ فرْحتها بعودة الكلمة إلى القارىء في كامل حِبْرها بالملحق وليس أثيرها فقط على شاشة الحاسوب، ولأني أدرك أن الاستعمال المُفْرط للعواطف قد يُفسد الحُب، أجدني اليوم وبعد العودة لكراسينا بمقرِّ الجريدة آمنين، أسْتحضِرُ بالعَيْن المتبصِّرة في عقل كاد يعْصِف بما تبقَّى من تفكيره هاجسُ كورونا، تجربة النَّاس الذين أفرغوا الشوارع ليزدحموا في أنفسهم بالانفعالات المُشوَّشة بهذا الوافد الجديد الذي ما حلَّ طاعونُه بالبشرية إلا لِيُبيد!

أسْتحضِر كما لو أُشاهد على شاشة الذاكرة، زمني المُمزَّق لحظة بلحظة وهو يُحقِّقُ القطيعة مُبشِّراً بعالمٍ أفضل سينبعث من بين أنقاض كورونا، فلا أعرف هل أصدِّق كل ما ينهار حولي أم أُكذِّب دمعي وهو يؤرخ بالكتابة لسيرة الهلع من كورونا الوثيقة المعاناة بالوعي الجمْعِي؟

أسْتحضِر بعد أن عادتِ الشوارع لأقْدامنا، تجربة الحجْر التي فرضتْ على العاملين بكل القطاعات الاعتصام بالجدران هرباً من الوباء، والاشتغال رقميا من بعيد، وها نحن نعود، وها أوْرقتِ الأكشاك بالملحق، ولأني أعْلم أنَّ ثمَّة من يسْتهِينُ ولا يُهوِّن مواسياً، لا أستطيع إلا أن أهمس بيني وبين نفسي أن تجربة الاشتغال إعلاميا عن بُعْد في عالم فَرَغَ من سُكَّانِه، ليست بالتجربة الهيِّنة على الصَّحفي وهو يُواكبُ كرونولوجيا أحْداث تطوُّر جائحة كورونا، وهي فُرصة لأحيي زميلاتي وزملائي في أسرة جريدة “العلم” الذين كانوا سبَّاقين لانتزاع المعلومة من فم الأسد رغم مسافة التباعد خلف الأسوار، وما انفكُّوا حاضرين بالعمل الدؤوب في مجموعة الواتساب طيلة النهار حتى الرابعة صباحاً، والتحية موصولة لكل الموضِّبات تحت إشراف الأخ محمد الحسَّاني، بأناملهنَّ التي تستحق أن تُلَفَّ بحرير، شكرا لإخراجهن الذي ألْبَس ما نكتب على صفحات الجريدة أجمل الحُلل، ولم يكن الزميل عبد الله البقالي مُقصِّراً في التدبير الإعلامي للجائحة، كان يُرسل إشارات مضيئة أفْضَتْ وهي ترسم خريطة طريق واضحة للزملاء، لإنجاز حوارات وملفاتٍ قِطاعيَّة ضخمة ما زال جرْسُ عناوينها البارزة يرِنُّ في أذني، ولوْ قُيِّضَ لي أنْ أتقدَّم باقتراحٍ حِفظاً لهذه الذاكرة من النِّسْيان، لطلبتُ من الأخ البقالي أن يبادر إلى طبْع كل أعداد الجريدة التي صدرت إلكترونياً بطريقة (PDF) أثناء الحجْر الصِّحي في كتاب ورقي، ليبقى وثيقةً حيَّة عن كيفية التدبير الإعلامي عن بُعْد لجائحة كورونا، وأنا واثقٌ أن هذا الكتاب سيكون خير مرجع لطلبة المعاهد والباحثين في التاريخ الإعلامي المغربي، واثِقٌ أنه سيأتي زمنٌ أجمل من زمننا المُوجع !

لا أستطيع أنْ أخفي ما في قرارة نفسي لأنه يفضحني مُرْتسماً على وجهي، أريد فقط أن أستيقظ يوماً وأسمع إحدى النشرات تزُفُّ خبراً صغيراً من ثلاث كلمات أشبه بعنوان أغنية: صفر كورونا بالمغرب، أتُوق لِطيَّ هذه المرحلة العصيبة طيَّ السِّجل للعذاب، وإلى أن يتسلَّل هذا الحُلُم خفيفا من جوف الوسائد ليغْدو واقعاً نبقى على أمل !

Loading...