علم النفس الجينيالوجي .. امتدادات التحليل النفسي

بقلم: يوسف عدنان *

* باحث متخصص في التحليل النفسي والفلسفات النفسانية

لم يحظ مبحث السّيكوجينيالوجيا “psycho généalogie” بالاهتمام اللاَّئق به في معظم الأبحاث والدّراسات النَّفسانيَّة العربيَّة والممارسات الطبيَّة العلاجيَّة إلى جانب التَّرجمات والاجتهادات الفكريَّة المعرفيَّة الخاصَّة بمجال علم النَّفس وفروعه المتناسلة (…). لذلك، وسعيا منَّا لتقريب القارئ العربيّ من هذا المبحث المهمل واللاَّمفكر فيه، ارتأيت أن أقدّم هذه الورقة الَّتي ترصد السّياقات التَّاريخيَّة لنشأة علم النَّفس الجينيالوجي وتطوّره، وترسم الخطوط العريضة للمناولات النَّظريَّة والعمليَّة الَّتي أخذ بناصيتها لتبليغ رسالته المنبعثة عبر الأجيال. فما الحاجة إذن لعلم النَّفس الجينيالوجيّ؟ كيف انبثق إلى الوجود؟ من هم أهمُّ روَّاده وأتباعه؟ ما طبيعة الخلفيات النَّظريَّة والأسس المنهجيَّة الَّتي ينهض عليها؟ وفيما تكمن جدَّة الجهاز المفاهيميّ الَّذي ابتكره لتشخيص الأعراض والباتولوجيات النَّفسيَّة؟ ثمَّ إلى أيّ حد نجد صدى لهذا المنهج في حياة الإنسان المعاصر؟

مدخل

علم النَّفس الجينيالوجيّ أو علم نفس الأنساب كما يدلُّ عليه اللَّفظ هو ائتلاف إيتيمولوجي بين كلمة نفس «psychè » وكلمة جينيالوجيا « généalogie » أمَّا من النَّاحية العلميَّة فيُحيل هذا الدَّمج إلى تكامل نظريّ يؤسّس لتوافق إبستيمولوجيّ حاصل بين التَّخصُّصين. يمارس هذا المنهج من طرف معالجين نفسيين متخصّصين، ويستخدم قواعد البحث الجينيالوجيّ في المجال النَّفسي. أساس هذا المنهج اكتشاف ما تعبّر عنه الوقائع من معاني ولما ترمز له عند أسلافنا، وهل من الممكن أن يكون لهذه الأحداث الَّتي مرَّت رباط خفيّ مع مشاكلنا الخاصَّة. شيئا ما من الوراثة النفسية لا تمرّ من الخبر الجينيتيكي ولكن عن طريق النّقل اللامرئي المخترق لمسار الأجيال والذي أوجد له هذا المبحث مفهوم “اللاشعور العائلي”.

فالسيكوجينيالوجيا علم في صراع مع التَّاريخ العائليّ والجماعيّ الَّذي ينزل بكلّ ثقله على معيش الأفراد، ويظلُّ مخفيًّا إمَّا بفعل التَّجاهل أو تحت وطأة السّر العائليّ. لذلك، عادة ما يطرح السّيكوجينيالوجي بعض التَّساؤلات القلقة نجملها على النَّحو التَّالي: وقوع هذا الحدث أو ذاك في حياتنا، أيمكن أن تكون له ارتدادات وعواقب وخيمة على بعض الأجيال اللاَّحقة؟ هل يترك فينا أجدادنا بصمات نفسيَّة عميقة؟ وهل للاَّشعور العائليّ وجود حقًّا في الحياة النَّفسيَّة الباطنيَّة؟

لقد تعرض مبحث علم النفس الجينيالوجي – كما أشرنا توّا – للإهمال الشديد من طرف النفسانيين العرب ونسبة من الغربيين منهم، مع العمل بأهميته ونجاعته في تشخيص وتحليل الأعراض التي لها امتداد غائر في الحياة النفسية اللاشعورية وتاريخها. لهذه الأسباب وغيرها، نتناول في هذه الدراسة هذه المادة الدسمة {تعريفا وتفهيما وتحليلا} من أجل تقريب القراء والباحثين والمحللين النفسيين من هذا الفرع التحليلي النفسي الذي يظل وثيق الصلة بمقولة اللاشعور، لكن مع الاجتهاد في كشف صيغ تشكلات هذا الأخير وتجلياته، لا ترصيفه ضمن إصطفافات مذهبية متحجّرة ومتأبطة وجها فقط من أوجه حقيقة الذات.

إن الديّن اللاّمسدد الذي خصّص له مبحث السيكوجينيالوجيا اهتماما خاصا، يجد تعبيره في مجموعة من الحالات المرضية، نقتصر على ذكر بعضا منها: -الإصابة بأمراض معينة لدى نفس العائلة – تكرار الانتحار في الشجرة الجينيالوجية للعائلة – الشعور بالذنب مع الجهل بالأسباب – استرجاع ذكرى الصدمة – إعادة تجربة الطلاق – الهلوسات القسرية … {الخ}. كلها أعراض مُمرضة تنتقل في صمت بين الأشخاص المنتمين لنفس الرابطة الدموية، بل هي تتعدى الخريطة العائلية لتشمل الحركة الجيليّة والعرق.

يشكل مبحث السيكوجينيالوجيا ملتقى طرق للعديد من النظريات النفسانية {حول الصدمة – الاستيهام – الموضوع المتأمثل وغيرها …}، ويحوز على مقدرة دمجية خلاقة لنظريات متنوعة ومدراس فكرية مختلفة على صعيد المعرفة النفسية.ومن ضمن المفاهيم الرائدة التي أضافها علم النفس الجينيالوجي إلى القاموس التحليلي النفسي، نجد:

• النقل العابر للأجيال
• اللاشعور العائلي
• البنية النفسية للاشعور العائلي
• الديناميات اللاواعية للاشعور العائلي
• ميكانيزم النقل اللامرئي
• الشجرة الجينيالوجية
• الجينوسوسيوغرام
• المقاربة العابرة للأجيال
• الولاء العائلي
• المتخيل الجماعي
• التكرار المزمن
• الشبح التشويش
• الحداد المرضي
• الصدمة والزمن النفسي
• السرّ العائلي المكتوم
• الذكرى الممرضة – الدّين
• الطابو المخزي
• الموضوع المفقود … {الخ}.

Loading...