القناص في شاطئ غزة
أطفال ينظرون إلى وهج الشمس. يلعبون… ويلامسون بأجسادهم البهية مياه البحر الأزرق الشاسع.
أنهك أحمد اللعب. جلس. وبأصبعه كتب على الرمال إسم فلسطين، وتأمل وهج الشمس. جاءت وفاء جلست بالقرب منه، نظرت إلى الخطوط الرملية، ورفعت رأسها عاليا، وتأملت وهج الشمس. ياسر استمر في اللعب، مبصرا المدى. يتذكر أيام الحجارة، والدبابات، والقصف، والكلاب، ويتأمل وهج الشمس. باسل برغم كبده، واعتلاله، يسلق بلسانه الكلاب.
صوت طائرات في الفراغ.
صاروخ يسقط.
يمزق الأجساد- الثلاثة- البهية.
يرفع أحمد رأسه متأثرا بجراحه…
يحاول النهوض…
كان ثمة قناص يرقبه في خفاء.
تستقر الرصاصة في رأس أحمد، فيسقط على الخطوط الرملية، وإذ تسقط يده اليمنى الحمراء عليها بحدب، يختفي وهج الشمس.
***
بائعة الورد
وهب الله حسناء حسنا لا يليق إلا بها.
كان حسنها شمسي، لامع، براق. تشتغل في دكان لبيع الورد.
لا تخرج من المحل إلى في أوقات الأكل أو الترويح عن نفسها من فرط القعود أو الوقوف في انتظار وصول زبائن أو من يعشقون ابتياع الورد.
هذا الآحاد لم يمر أحد من باب الدكان.
الورد بعضه منتثر، وآخر مجمع في أصقاع الدكان. لكن لا أحد يريد ابتياع الورد.
لم تدرك حسناء أنها هي ذاتها أمست وردة ترغب في من يحملها بين ذراعيه ويطير بها إلى السماء.
في صباح وردي. مر من أمام الدكان كريم. أثار انتباهه هذا الحسن الشمسي المغروس وسط الورد.
تأمل الدكان.
افترت حسناء عن ابتسامة رائقة.
خرجت حاملة الورد بين نهديها غير المكشوفين.
قال لها سائلا:
– هل ترغبين في الغدو معي في هذا الطريق وأشار بأصبعه رافعا رأسه إلى السماء ؟…
كان نعلها الأيمن ضيقا… يؤلمها، قالت:
– أحب… أحبك…أحب ذلك…
صعقت باب الدكان، وخرجت.
أمسكت بيده اليمنى، وبارتعاده سرت في جسمها قالت في سرها:
– “وداعا أيها الورد. لك الله ليحفظ نورك الملتهب”.
كان الطريق ممتدا إلى السماء التي ضمتهما في جناحها كآدم وحواء.
***
إسعاف
أصوات الطائرات.
أصوات مرعبة، ضروسة.
تحت سماء غزة.
كل الناس تجري… نيران تشتعل في كل مكان…
سيارة إسعاف تخرم الطرقات…
طفلة تنزف دما…دما غزيرا يغرق فضاء السيارة الحزين.
المستشفى.
يحمل المسعف الطفلة بين يديه، قلبه يدق بعجلة.
يديه الملطختين بالدماء.
يدخل إلى المستشفى، يضع الطفلة بين يدي الطبيب، الذي يرتدي ملبسا أخضر، ويخرج بعجلة.
هاهو المسعف الآن في الطريق. سيارة الإسعاف تخرم الطريق لإنقاذ الأرواح.
المذيع يقول: ” وصل ضحايا قصف الطائرات الإسرائيلية إلى أكثر من 230 شهيد و1600 جريح”.
يصرخ المسعف.
يوقف السيارة. ويبصق، يكاد يتقيأ. يمزق ثيابه، ويسقط… وبعد هنيهة، يصعد إلى السيارة.
السيارة تخرم الطريق. يشعل سيجارة شقراء، ينفخ الدخان.
المذيع يتحدث عن لقاء بين “السيسي” و”أبومازن” بخصوص وقف إطلاق النار.
قبل وصوله إلى أحد المنازل المحطمة، يتلقى صاروخا…
وقبل الرحيل، يرى صورة الطفلة، في ملبس أبيض، تمسكه من يده اليمنى وتزفه إلى السماء.
***
سيدة الرياح الطيبة
هادئة هي أجواء بوينس أيريس هذا الصباح.
كانت غراسييلا في هذا الوقت قد خرجت من غرفة النوم، لا ترتدي سوى ملبسا أبيضا شفافا… جلست على كرسي هزاز، وأشعلت التلفاز. حرارة يوليو محتملة. نهضت، فتحت الثلاجة، شربت من القارورة المائية المثلجة، فتذكرت للتو ليلة السنة الماضية التي سقطت فهيا الأمطار بغزارة مصحوبة بعاصفة ثلجية. قالت في سرها: “الحمد لله. هذه السنة مناخ بوينس أيريس شبه استوائي رطب ودرجة حرارته في الصباح محتملة، إنه صباح منعش”.
تعود غراسييلا إلى الكرسي الهزاز. تفكر في شيء ما، لا تعرف سره إلا هي بمفردها، ثم بغتة تسمع أصواتا ضروسة، فتاكة… أصوات طائرات ضخمة كالنسر. قال المذيع: ” إنها أصوات طائرات…”. أدركت غراسييلا الأحوال، وقالت في سرها: ” لابد من التحرك… لابد من فعل شيء ما”.
في هذا الصباح، خرجت غراسييلا.
كانت ثمة أسر متوجهة إلى الشاطئ.
قالت في سرها: “ربي أنعم علي بالقوة حتى أنجح فيما سأقوم به من عمل صالح”. واستطردت: ” يا سيدة الرياح الطيبة ساعديني على حاجتي”.
هاهي غراسييلا تصل الآن إلى شارع باليرمو الممتلئ بالأشجار الكثيفة وبمطاعم نوعية، لم تحس بالجوع تماما برغم أنها لم تتناول إفطارها بالشكل الدقيق، كما اعتادت على ذلك كل صباح: حليب دافئ، قطعة خبز رقيقة، وجبن أبيض وعسل، وموز. أطلت على تلفاز أحد المطاعم، فارتعبت من رؤيتها لقطع الأشلاء الآدمية التي تبثها صور التلفاز، لم تستطع استكمال النظر.
ابتعدت غراسييلا عن هذا الشارع لتجد نفسها وسط باريو ملآن بالكنائس والمدارس و محلات خضروات وأسواق لحوم ومخابز، كما انبهرت بالألوان الرطبة- هي الأخرى-والمساكن البراقة الطلاء والمطاعم الإيطالية الممتازة. في غضون انبهارها، رن هاتفها النقال. كانت المتحدثة صديقتها فدوى. قالت لها: ” لابد أن تأتي حالا إلى شارع… ( لم تنطق إسمه، بل وحتى السارد لم يعرف إسم الشارع) سيخرج الجميع في مظاهرة تضامنية مع شهداء غزة “. قالت غراسييلا بتصميم: ” سآتي حالا”.
وبسرعة البرق. كانت غراسييلا وسط حشود المتظاهرين. كان الشارع مملوءا عن آخره. خرج كل أصحاب محال الملابس الجلدية والأحذية والصحف، وجاء أناس من أحياء وشوارع أخرى، كما خرج آخرون من المطاعم والمقاهي، وتجمع الفنانون الاستعراضيون الذين أحسوا أنهم معنيين، وأوقفوا جميعا ” رقص التانغو”. حملت لافتات ولوحات وارتديت كوفيات وألبسة فلسطينية. وانطلقت الألسنة باللهيب، والصياح.
ووسط الجموع رفعت غراسييلا، وهي تطوق عنقها بكوفية فلسطينية، لوحة كتبت عليها:
PAREMOS EL GENOCIDIO PALESTINO
VIVA PALESTINA
ISRAEL ASESINO
وبعد ساعات… تفرق الجميع
ودعت غراسييلا فدوى، وعادت إلى المنزل. جلست على الكرسي الهزاز، وراحت تفكر في شيء ما، لا تعرف سره إلا هي بمفردها.
***
وجع
“يوجعني قلبي وأنا أنظر إلى مشهد الأطفال الذين يسقطون كالأغصان في هذا المدى الخصيب الأخضر”، قال أحمد.
كان ساعتها يجثو متوجعا أمام أجساد الأطفال المتهالكة.
عندما رفع رأسه لينظر إلى السماء الرمادية أحس بصوت مريم يسأله بحنق: ” لماذا تركتموهم يقتلوننا؟”.
ساعتها خيل إلى أحمد أن السماء الرمادية تقترب رويدا رويدا منه وكأنها تريد ابتلاعه، فيجثو مرة ثانية، ويتوجع… ثم يبصق ما في جوفه من دماء.
هاهو ذا يحس بالعطش، فينهض ويمشي تائها في الطرقات، ليس أمامه سوى المدى… المدى الخصيب الأخضر، ومن خلفه أصوات الأغصان الخضراء والحمراء تناديه: ” عد أيها التائه… ” يغلق أذنيه، ويتابع طريقه من دون مبصرة.
***
علياء
جاءت علياء إلى الدنيا بعد وجع.
رافقها هذا الوجع كل الحياة.
“حبلها عليوة”، قالت نسوة المصنع.
كان عليوة قد تعرف على خديجة في مصنع للنسيج. كان يشرف على الخياطات، فأحبته، وكانا يلتقيا بعد اكتمال العمل في بيت عليوة.
يجمعهما الأكل، والشراب، والرقص، والسرير.
وفي يوم شمسي، بعد إدراكها أنها حبلى، جاءت عند عليوة. كان يشرف على الخياطات، وبفم ملآن، قالت له ” تزوجني”، فرفض.
لم يهتم عليوة بحكايتها، وقال لها بحنق: ” ابتعدي عني، أنا لا أعرفك”.
متوجعة، خرجت. بكت عوض الدموع دما، وبقيت على ذلك الحال لثمانية أشهر حتى رزقها الله بطفلة حسناء كالهلال- سمتها علياء- فافتر ثغرها عن ابتسامة ساحرة بازغة، لكن قلبها كان متوجعا كما لو أن نارا تتأجج فيه.
كبرت علياء.
لم تكن كباقي الفتيات. عاشت وحيدة، لا تعرف إلا حضن أمها خديجة. وفي كل مرة تسـأل عن أبيها، لا تجيبها خديجة. كانت تقول لها: ” لا أحب أن أتكلم في الموضوع، ذاك أثر الماضي، وانتهى”، وعندما كان يستبد بها الغضب، بعد إلحاح علياء على معرفة “الحقيقة”، كانت خديجة تقول لها: ” لا أب لك، يابنت الكلب”.
ذات صباح، جاءت نسوة المصنع إلى بيت خديجة. أقفلت خديجة الباب. همسن في أذنها، ثم
خرجن.
مات عليوة.
قالت النسوة: ” كان سكرانا. خرج بالليل من الحانة. اعترض سبيله لصان سرقا ما في جيوبه من نقود. طعنه أحدهما بمدية، فصعدت روحه إلى السماء”.
أنست خديجة.
لم يعد لها الآن ما تخفيه. لقد رحل عليوة كغمامة.
وفي ليلة قمرية، حكت لعلياء القصة كاملة، ونامت متهللة.
في الصباح كانت علياء تلعب لعبة الحجلة مع فتيات في سنها أمام باب البيت.
***
الغراب
رأيت فيما يرى النائم أن غرابا يأكلني.
استفقت مذعورا.
يا للعجب.
إنني أرى الآن عين الغراب يحلق في فضاء غرفة نومي.
لم أستوعب كل ما يقع داخل غرفة نومي.
قلت في سري، متسائلا: “هل الحلم تحول إلى حقيقة؟”. أية حقيقة إذن.
نزلت مائدة الفطور. أكلت، استغربت، إنه هو عين الغراب يأكل معي. ارتديت ملابسي لأخرج لعملي. تبعني.
على طاولة العمل، كان معي، أصبح لا يفارقني في الحلم وفي اليقظة.
” ماذا أفعل، ياربي؟”، قلت في سري، كرر الغراب كلامي كأنه تحول إلى ببغاء.
في الليل وأنا عائد إلى البيت، اعترض سبيلي لص. أراد سرقتي. كان عين الغراب معي، ملتصق بي، قاومته، أخرج مدية، وحاول طعني بها. انزلقت يده، فطعن بالمدية الغراب.
***
المديرة
لم تكن خدوج تتصور في يوم من الأيام أنها ستعين مديرة لإحدى القنوات التلفزيونية.
عندما وصلها خبر تعيينها، لم تصدق. لم تقل شيئا. شبكت يديها بشكل لين. ثم خرجت لتتوجه إلى مكتبها الجديد.
استقبلت من طرف العاملين بحفاوة، شيء لم تصدقه، أيضا.
عندما دخلت إلى المكتب، رفعت كلا الحاجبين، وقالت في سرها: ” الآن تحقق حلمي”.
تذكر أيام كانت صحافية صغيرة، كمثل ورقة خفيفة، الكل يخرمها، ويحتقرها، ولا تسلم من أذى رؤسائها الكبار وتغطرسهم.
اليوم لديها السلطة. السلطة المتعددة كالشياطين. ولا أحد سيوقفها عن فعل ما تتوخاه.
أن ترقي هذا أو توبخ ذاك. أن تطرد كل من يخطئ، ولو كان خطأ صغيرا.
ذات صباح، دخل إلى مكتبها واش، قال لها: ” أحمد كتب عن تغطرسك، واستبداديتك، في صفحته بالفايسبوك”.
لم تنبس خدوج ببنت شفة، وأمرت الواشي بأن يحضره في الحال، وسينال مكافأة”.
دخل أحمد، لم تتكلم معه، طلبت منه أن يعترف بغلطته – أو كما تسميها هي كبوته- ويعتذر، ثم ألا يعود لمثل هذا الفعل. لكن أحمد رفض وهز كتفه. حكت أنفها. مررت يديها على أذنيها، وسحبتهما للتو، ثم قطبت جبينها ونظرت إلى الأرض في عبوس.
خرج أحمد من المكتب. يفكر في مصيره.
عادت خدوج إلى مكتبها، وشرعت تنقر بأصابعها عليه.
***
وجبة سريعة
دخلت هذا المساء إلى مطعم في حي راق. أجهل حقيقة إسم الحي. ربما، الكاتب يعرفه. قال لي ذات يوم بحنق: “لا أحتمل المكوث كثيرا في هذا المطعم، ألوانه تصيبني بالسأم، أتناول وجبتي سريعا، وأنصرف”. كنت أدرك أن الكاتب يحب الأكل في المطاعم الشعبية.
كانا اللونين الأحمر والأصفر طاغيان على هذا المطعم، مما جعلني لا أحتمل النظر إلهما. جاء النادل بسرعة. سجل في كراس صغير ما اشتهيته من طعام، ثم انصرف. انتظرت. تأملت اللونين الأحمر والأصفر. حضرت الوجبة. أكلت بسرعة، ثم خرجت من المطعم.
***
انتظار
لم أكن أتخيل أنني سأبقى كل هذا الوقت أنتظر دوري عند طبيب الأسنان.
أحسست بالسأم، فخرجت إلى باب العيادة، و شرعت في تدخين سيجارة، نفخت الدخان، فأحسست بألم.
ثماني ساعات وأنا جالس في الصالة الضيقة مع أشخاص لا أعرفهم، يتأملون في سحنات بعضهم البعض ولا يتكلمون. أنتظر دوري، وفي يدي اليمنى ورقة بها رقم 20.
باب الطبيب مقفلة. والممرضة تدخل وتخرج، ثم تغيب عن الأنظار، فيما تشذب المستقبلة أظافرها، وعندما تكمل هذه المهمة الصعبة، التي تستوجب نوعا من التركيز كما لوكانت تقرأ كتابا لكانت، تشاهد الأخبار في التلفاز، هي مشغوفة بأخبار المذابح التي تقع في سوريا والعراق وغزة، علمت هذا من ترددي على هذه العيادة لشهور.
لا حظت أن كل متوعك يدخل عند الطبيب لا يخرج إلا بمشقة، لا قيمة للساعة، أو للزمن في هذه العيادة، ولا يعرف أحد من المتوعكين متى سيخرج من دخل إلى حجرة الطبيب التي لا يمكن الدخول إليها، إلا بعد أن تنادي المستقبلة على رقمك. لاحظت أن وضعية كفيها على شكل برج مصحوبة بميلان رأسها إلى الأعلى. نظرت إلى الأرض في عبوس. وخرجت إلى باب العيادة وشرعت في تدخين سيجارة، نفخت الدخان، فأحسست بألم. ثم عدت إلى الجلوس، سئمت من الانتظار.
صمت كالبركان.
أحسست أنني غير مرغوب فيه، فأنا هنا سجين، محاصر، لست إلا رقما. تراجعت قليلا إلى الخلف، أنزلت طرفي فمي، ثم حدجت المستقبلة بنظرة جلفة، وانصرفت.
***
أنا وهي
التقينا أنا وهي صدفة في شارع طويل، لا قناديل فيه، بل أعمدة كهربائية، وضجيج سيارات، فابتسمت، وسلمت كأن لا شيء كان…، أولا شيء حصل، مع أن الهاتف المحمول كان شاهدا على تصرفها. سألت نفسي: هل بسمتها وحدها كافية؟…
كانت تحمل كتابا، وكانت يدي التي مسكت قليلا يدها تلعنني في صمت، أنا الذي كان ينبغي علي أن أبدل الطريق. لربما في التبديل راحة… ونسيان. بيد أن يد الصدفة كانت أقوى.
غادرت الشارع في صمت بوجه مكشر.
***
الحقيبة
كانت فتحية كلما صعدت إلى السطح لنشر الغسيل إلا وتفكر في إخضاع الفقيه عبد الله لنزواتها اللامحدودة. تفكر في إغوائه. وهكذا كانت ترتدي قميصا شفافا يكشف عن صدرها البض، وسروالا قصيرا يفصح عن نعومة قدميها الرخوين. عبد الله لم يكن بوسعه أن يقاوم هذا الجسد الفاتن لفتحية، الذي اعتاد أن يتفرج عليه من نافذة شقته التي تطل مباشرة على السطح. كان لعابه يسيل من فرط النظر إليها، وهي تنشر الغسيل مدركة أن عبد الله يراقبها من بعيد وهو يحترق اشتياقا، يرغب في تقبيلها، وإذا رضيت به، يذهب إلى أبعد من القبلة، فتحرك شعرها الأسود الحريري اللامع، وتنظر صوب النافذة نظرة مغوية، ثم تضحك ضحكة عالية يسمعها أهل “جامع مزواق” كلها، وفي اللحظة التي تحاول أن تنزل إلى شقتها السفلى عبر الدرجات يمسكها عبد الله من يدها اليمنى، ويدخلها إلى شقته ليعيش معها أحلى اللحظات ويتمتع بجسدها الفتي الساخن.
كانت فتحية تقيم بالشقة السفلى، هي وزوجها عبد الرحيم ورضيعتهما مريم، ولم تكن الشقة واسعة، بالكاد تكفيهما.
كانت تحوي غرفة نوم وصالة صغيرة ومطبخ ودورة مياه ، ولحجم صغرها لم تكن تكلف عبد الرحيم أثاثا كبيرا، فالرجل كان لا يعمل على الإطلاق، وإنما يظل النهار كله يتسكع في الدروب، والأزقة، وبعض الأحياء الراقية بالمدينة، عسى أن يلتقط شيئا ما يكفيه ليملأ بطن فتحية ومريم. وفي أحايين كثيرة، كان يضطر لاعتراض سبيل بعض المارة في الدروب الضيقة، أو عندما يكون الحي خاويا من أي نفس بشري مستعملا المطواة سلاحه الوحيد الذي كان يحمله في جيبه على الدوام. في أحد الأيام، لم يتبقى له نقود، بحيث صرفتها فتحية في الأكل والشرب، وابتياع بعض الحاجيات الخاصة بالرضيعة مريم، اضطر إلى أن يخرج من الشقة قضيبا حديديا كان يخبئه تحت السرير، ولم تكن فتحية تعرف عنه أي شيء، ولم تسأله بتاتا إلى أي داهية هو ذاهب في الليل. قال لها: ” ادخلي يا امرأة، واتركيني لحالي”. وهكذا دخلت إلى الشقة دون أن تنبس… فيما تابع عبد الرحيم سيره في درب ” جامع مزواق ” دون أن يشعر به أحد، وهو يحمل في ظهره قضيبا حديديا ويفكر في النقود وكيف سيصل إليها، وبدا كالمجنون، ثم حث الخطى إلى أحد الأحياء الراقية التي ما إن وصل إليها حتى كان قد أنهكه التعب، ومع ذلك أخذ نفسا عميقا، ووقف صلدا… وقف في العتمة، حيث نور الشارع قد انطفأ، ينتظر مرور أحد الأثرياء لينقض عليه كغضنفر.
من سوء حظ عبد الرحيم أن لا أحد من الأثرياء مر في ذلك الوقت.
فانتابته حالة من الغضب الشديد، وبدا وجهه شاحبا، وجسده يرتعش… لم تكن السماء متشحة بالنجوم، ولا وجود للقمر، بل كانت سوداء، فارغة كفؤاد أم موسى. الآن سيعود عبد الرحيم إلى الشقة بخفي حنين، وسيظل طوال الليل يفكر في شيء واحد يقض مضجعه ولا يتركه ينام: النقود.
في الصباح، سيبدو وجهه شاحبا، وسيعجز عن دخول دورة المياه لينظف جسده بالصابون والماء الدافئ، تاركا رائحة العرق الكريهة تفوح منه، رائحة تعافها حتى الكلاب والقطط، وسيظل يفكر في الأمر دون أن يصل إلى حل. وبنظرة ثاقبة من عينيها العسليتين، مدركة ما يفكر فيه عبد الرحيم، ستقول له فتحية: ” أنا لقيت الحل”، ومن عير أن يفتح فمه، أدرك هو الآخر، أن فتحية عرفت سرا، وترغب في البوح به، ولم يفكر أبدا في الفقيه، فنظر إليها، ثم قال لها: ” هل فكرت في الفقيه؟”، فتقول: ” أجل، إنه يمتلك حقيبة ممتلئة بالنقود يخبئها في خزانة غرفته”.
كان الفقيه عبد الله يعيش لوحده، لم يفكر أبدا في الزواج. كان مقطوعا من شجرة، لا أب ولا أم ولا أخ، إلخ…وكان يؤم بالمصلين ب” جامع مزواق”، وفي أحايين كثيرة كانت بعض النسوة العانسات يدخلن عنده إلى شقته، يطلبن بركته ليتزوجن، أو ليقمن بعمل ما لرفاق دربهن، فيقوم الفقيه بتحضير تعويذاته،وأسراره التي لا يعلمها إلا هو بذاته، وبرغم أن بعض حساده في الحي أشاعوا عنه خبر ممارسته للجنس مع النسوة الزائرات لشقته، إلا أن ذلك لم يكن صحيحا، والله أعلم…، ذلك أن عين الفقيه كانت زائغة، وكان يعشق النساء مثلما يعشق الحلويات. وغالب الأحيان كان يقول: ” تلك شائعات لا غير”.
اكترى الفقيه عبد الله لعبد الرحيم وفتحية الشقة السفلى واحتفظ لنفسه بالشقة العليا، وكان طيبا معهما. مكثا في الشقة ثلاثة أشهر، ومعهما الرضيعة، التي كانت تتركها أمها وحيدة، وتصعد كل مرة يخرج فيها زوجها من الشقة إلى السطح لنشر الغسيل، فيمسكها الفقيه عبد الله من يدها ويرميها فوق السرير المجاور لخزانة الغرفة، ثم يعيش معها أحلى اللحظات ويتمتع بجسدها الفتي الساخن، ولما يفرغ من متعته، يزودها بالنقود، وفي أحد الأيام قال لها إنه لن يأخذ منها نقود الكراء، فشعرت بلوعة الفرح، وعندما جاء زوجها أخبرته بذلك، فسألها عن الحقيبة، وشرعا يفكران في طريقة لتصفية عبد الله.
خيل إلى فتحية، عندما تركت الفقيه عبد الله نائما، أن الحقيبة ممتلئة بالأوراق النقدية، وشرعت تحلم بحياة وردية، تخلصها من حياة الفقر والعوز والذل. تتصور الآن أنها ترتدي فساتين آخر موضة، وتركب سيارة فخمة جديدة، وتشتري دارة فخمة تخلصها من ضيق هذا القبو- الشقة القذرة التي تقيم بها.
لم تكن الضربة بالقضيب الحديدي التي تلقاها الفقيه عبد الله على رأسه ضربة واحدة، بل ضربات. كان عبد الرحيم يريد تصفيته، وتم له ذلك، هذا ما اتفق عليه هو وفتحية، التي لم تعد تفكر سوى في حياة جديدة ممتلئة بكل ألوان الثراء. كان الفقيه عبد الله في غرفته عندما صعدت عنده فتحية، لتغويه وتلهيه، ليضربه عبد الرحيم، من خلف ظهره، بالقضيب الحديدي ضربات متتابعة على رأسه ويسرقا الحقيبة تاركين الفقيه ملقى على الأرض وجسده كله مضرج بالدماء. وعندما فتحا الحقيبة لم يعثرا سوى على أوراق خاصة بالملكية وبعض الأغراض الخاصة. وهكذا أصيب عبد الرحيم بحالة عصبية خطيرة، ومن عير أن ينبس بالكلام، أمسك بالقضيب الحديدي الذي كان في يده اليمنى وهشم رأس فتحية، وخرج من الشقة لا يلوي على شيء، تاركا فتحية غارقة في بحيرة من الدماء، فاغرة فاها، وعيناها تتطلعان إلى سقف الغرفة، ولم يهتم أبدا لبكاء مريم التي بقيت وحيدة.
بعد أيام بدأت روائح كريهة تنبعث من جثثهما خارج الشقتين، فانتابت الجيران شكوك دفعتهم لإخطار رجال الشرطة.
منذ جاءت فتحية إلى ” جامع مزواق”، كانت ضحكتها العالية يسمعها الكل، أما الآن فقد انطفأت، ولم يعد أحد يتكلم عنها كأنها سافرت إلى مكان بعيد.
يوسف خليل السباعي في سطور
* كاتب وصحافي
– من مواليد مدينة القصر الكبير- المغرب 16 مارس 1964؛
– يقيم منذ 30 سنة بتطوان،
– خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 1988، حاصل على الإجازة في الأدب العربي؛
– عضو مكتب النقابة الوطنية للصحافة المغربية فرع تطوان؛
– عضو مكتب الجمعية المغربية للصحافة؛
– عضو اتحاد كتاب المغرب؛
– عضو شبكة القصة العربية؛
– مراسل صحافي سابق لجريدة “العلم” ؛
– مراسل صحافي سابق لجريدة ” الشروق” ؛
– عضو هيئة تحرير جريدة ” تمودة” تطوان؛
– ترجم ونشر دراسات وأبحاث ومقالات ونصوص لكل من رولان بارث، كريستيان ميتز، كلود بريمون، وستيفان برناس؛
– يكتب عمودأ أسبوعيا بعنوان ” كلام لابد منه” بـ ” تمودة” ؛
– نشرت له مجموعة من القصص القصيرة والمقالات بـ: جريدة “العرب اليوم” الأردنية،العلم الثقافي، يصدر عن جريدة “العلم”، يشرف عليه الشاعر والصحافي محمد بشكار، – جريدة “تمودة”، -جريدة “القصة العربية”، جريدة “المنارة” العراقية، جريدة (الزمان)، الدولية،مجلة ” طنجة الأدبية”، مجلة ” البوصلة” الإلكترونية، يشرف عليها الشاعرين إدريس علوش ومحسن العتيقي، مجلة ” المحلاج” الإلكترونية، يشرف عليها الكاتب والقاص عبد الحميد الغرباوي له صفحة خاصة في موقع إلكتروني للكاتب والقاص المصري ماهر طلبة.
كما نشر العديد من المقالات المتنوعة بعدد من الجرائد المحلية والجهوية، منها ” مغرب الشمال”، ”
الجسر”، ” الضمير” ” أبعاد متوسطية”، ” الشمال”، ” آخر خبر”، ” الريف”، وغيرها.
* صدر له:
– الظل”، مجموعة قصصية، منشورات ” منار الكتاب”
– ” ناتاليا”، رواية، منشورات شركة “تمودة تطوان”
– ” زهرة الخشخاش”، سلسلة إبداعات مكتبة سلمى الثقافية
– ” جنون الحاكم وقصص أخرى”، منشورات شركة ” تمودة تطوان”
– ” أسرار” مجموعة قصصية، منشورات شركة ” تمودة تطوان”
– ” الأبواب السبعة، القمر المحجوب”، رواية، منشورات شركة ” تمودة تطوان”
“- روندا أرض الأحلام”، رواية، مطبعة الحمامة، تطوان
* يصدرله قريبا:
– ” ظلال الجرح” ، رواية، سلسلة إبداعات مكتبة سلمى الثقافية
– ” العشب الأخضر”، رواية
– ” الجريمة”، قصص
– نصوص شعرية ” الريح”
– وترجمات…
الفهرس
القناص
بائعة الورد
إسعاف
سيدة الرياح الطيبة
وجع
علياء
الغراب
المديرة
وجبة سريعة
انتظار
أنا وهي
الحقيبة