مصطفى بودغية
أحسست بارتفاع ملحوظ في حرارة جسدي. وضعت يدي على جبيني، وجدت الفوطة الصغيرة المبللة بالماء البارد قد جفت. بعد وقت يسير، ومثلما يحدث في أفلام الرعب، تدلى رأس امرأة من النافذة المفتوحة المجاورة لسريري، فتحت فمها وأبانت عن أسنان حادة طويلة، ركزت عيناها الواسعتين العدوانيتين علي وهي تقول: سأمتص آخر قطرة من دمك أيها الكلب الأجرب! نهضت مذعورا من فراشي وهرولت نحو باب غرفتي. لعنت رأس المرأة البشع وأسنانها الحادة وتلك النافذة التي أتركها مفتوحة بسبب دخان السجائر. خرجت مفزوعا إلى الشارع، لم أجد أحدا سوى قطعان كلاب ضالة تسير في كل الاتجاهات.
دخلت غرفة واسعة أخرى، في مبنى آخر، في شارع لا أعرفه، وجدت “فقيها” كله بياض ما عدا لحيته الموشحة بالسوداء الفاحم، يشرح للناس كيف أن “وليا” من أولياء الله تغوط أمام مريديه وتابعيه، وبعد فترة قصيرة تحول “الغائط” إلى نبات أخضر يانع ،يثير شهية الدواب والبهائم.
لمحت وجوه الحاضرين مندهشة وأفواههم مفتوحة. قلت بيني وبين نفسي:”لمَ العجب؟ فما يتغوطه الناس قابل لأن يتحول ويدور مع دورة الطبيعة. لربما يكون غائط هذا “الشيخ” سريع التحول والنمو، لسبب نجهله. خرجت من الغرفة هربا من جوها المختنق بالزحمة. التقيت توا بفقيه آخر، يسير وحده، ابتسم لي ولوح بيده قائلا: كما ترى،أحب العزلة والخلوة وأعرف أن كل شاة تعلق من رجلها. لم أفهم كلامه جيدا، ولا ماذا يقصد بالشاة.
تابعت طريقي. وجدت نفسي على أطراف ساحة واسعة، يلعب في وسطها فتيان الكرة بحيوية ومرح. وجدتني بينهم ألعب الكرة بشغف وفرح مثلهم تماما، ألعب ظهيرا أيمنا كما كنت ألعب في صباي. كانت السماء رزقاء صافية، والشمس ترسل أشعتها بسخاء بالغ. سمعت فيما يشبه صفارة الحكم، مع أني لم أر أي حكم وسط الساحة. فجأة، تغير كل شيء، لم يعد هناك أطفال ولا كرة، ولا سماء زرقاء، ولا شمس مشرقة.
بقيت الساحة وحدها أمامي، تحت سماء ملبدة بالغيوم السوداء، وفي لحظة أسرع من رمشة العين، اصطفت وسطها فرقة من قوات “التدخل السريع”، فرقة مكونة من أربعة صفوف، فرقة بكامل عدتها، جاهزة للتدخل، ولا تنتظر سوى الأوامر. تتدخل ضد من؟. سؤال لم أستطع الإجابة عنه. لقد كنت وحدي أمامهم، ليس هنا جموع محتجة ولا متظاهرون.لم يبد لي المكان يشبه أي مكان في الحسيمة أو في ضواحيها. ومع ذلك خمنت من خلال ملامحهم وطريقة اصطفافهم أنهم مستعدون لكسر العظام والجماجم. مستعدون لاقتحام المنازل، تفحصت وجوههم، كانت ملامحهم متشابهة، وكـأنهم مجرد نسخ من رجل واحد. وجوههم لا فرح فيها ولا حزن، لاسعادة ولا شقاء، كأنها ملامح جثث محنطة، أو ملامح أجساد قُدت من حجر.
لست أدري لماذا توجهت نحوهم، ووقفت أمامهم أأنظر إليهم واحدا واحدا. خيل إلي من خلال وقفتهم الصارمة أمامي، وتحاشيهم النظر في وجهي، أنني أنا المسؤول عنهم. أدهشني الأمر وعقد لساني لفترة. لكنني بعد أن أكملت جولتي بينهم، وليتهم ظهري وقفلت راجعا من حيث أتيت. صاح كبيرهم: نحن ننتظر التعليمات، ماذا نحن فاعلون ؟ التفت إليهم، وقلت لهم بنبرة غير المكترث وبصوت الواثق من لامبالاته: عودوا إلى منازلكم، عودوا إلى زوجاتكم وأطفالكم، ليس لديكم ما تفعلونه هنا ولا في أي مكان آخر! نظروا إلى بعضهم البعض مستغربين وقد علت الدهشة وجوههم،ثم انحنوا أماما، وبدأوا يتقيأون ويتقيأون، أفرغوا من أحشائهم ركاما ضخما من الأوامر والتعليمات. ثم شرعوا يكسرون بعنف هراواتهم، بحنون طفولي، وينزعون خوذاتهم وأحذيتهم الثقيلة ويرمونها بعيدا، وكأنهم وُلدوا من جديد، أو عادوا إلى الحياة.
أخرجوا كرة وطفقوا يلعبون بها وهم يتضاحكون فرحين منتشين مثل أطفال صغار. لكنني لم أر نفسي بينهم. لم أكن معهم أبدا، كنت أحس بارتفاع ملحوظ في حرارة جسدي،أتحسس على جبيني الفوطة الصغيرة المبللة بالماء البارد وقد جفت تماما…