«مجتمع العقاب» جدلية السلطة والمعرفة عند ميشيل فوكو
محمد مخلوف
بعد 36 سنة من وفاته عام 1984 لا يزال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حاضر التأثير في مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعدد من المشارب الأخرى. ليس في فرنسا فحسب..
ولكن أيضاً على الصعيد العالمي فهو أحد المراجع الفكرية والفلسفية الفرنسية، إن لم يكن المرجع الأول، الأكثر تردداً في الكتابات والنقاشات في تلك المجالات. تجدر الإشارة أن “الدليل التربوي الأعلى للتايمز” لعام 2007 قد صنّف ميشيل فوكو أنه المؤلف في مجال العلوم الإنسانية الأكثر رجوعاً له في العالم.
المجتمع والعقاب
من الأعمال الشهيرة لميشيل فوكو في شرحه لآليات عمل السلطة كتابه الذي يحمل عنوان “المجتمع والعقاب” الصادر عام 1975. ويؤكّد فيه أن القرن التاسع عشر كان “فخوراً” بتلك السجون، القلاع التي كانت تبنيها السلطات عند مشارف المدن وأحياناً داخلها. بدت تلك السجون أنها بديل “لطيف” للمقصلة “السابقة من جهة، ووسيلة لمعاقبة “الروح” وليس الجسد من جهة أخرى.
ويجد فوكو أن هناك تشابهاً كبيراً بين قوانين “الحجر والعزل” التي سنّتها السلطات الغربية في العصر الكلاسيكي لفترة ما بعد النهضة وبين السلوك الذي انتهجته العصور الوسطى بـ”عزل” المصابين بمرض الجذام. بالتوازي كانت المؤسسات الكلاسيكية المتمثّلة في المستشفيات وغيرها من المنشآت الصحية مكرّسة خاصة لإيواء الهامشيين من فقراء ومتسولين ومجانين.
ممارسات
الفكرة المعلنة التي كمنت وراء بناء السجون يحددها فوكو في أن زنزاناتها وجدرانها العالية وأقفالها المحكمة وحرّاسها الذين يرصدون كل كلمة وحركة إنما كانت بمثابة “إصلاحيات ” للتربية الاجتماعية”. ثم إن السجون كانت ترجمة مباشرة لفكرة “الحجز” على كل من يرتكب جنحة أو جرماً. بالتالي كانت ممارسة ترمي، كما تمّ تقديمها، لتصحيح السلوك. وممارسة وجدت صداها الذي لا يزال قائماً في جميع المنظومات الجنائية في الدول الحديثة.
ويشرح فوكو كيف أن أوروبا عرفت من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر سلسلة من الإجراءات والممارسات التي شملت المراقبة والتعقّب وسياسات إصلاح الأفراد. ذلك كلّه من أجل جعل هؤلاء الأفراد “مطواعين ومفيدين”.
والإشارة أن تلك القرون شهدت ممارسات ترمي إلى تحقيق نفس الأهداف على أصعدة المستشفيات والمدارس والجيوش وورش العمل. والمطلوب في جميع الحالات هو الوصول إلى مجتمع يسوده “الانضباط”. ويؤكّد فوكو أنه ينبغي بالمحصّلة وضع تأسيس السجون في سياق تأسيس “مجتمعات الرقابة”.
وجه نضالي
وتعود بدايات تأليف الكتاب إلى 1968، فبعد أحداث وتظاهرات الطلبة في شهر مايو، من السنة نفسها، في فرنسا المعروفة بثورة الطلبة تولّى ميشيل فوكو إدارة قسم الفلسفة في جامعة “فانسين” التجريبية. وأظهر وجهاً “نضالياً” عبر تأييد معسكر الطلبة وصولاً إلى المواجهات مع الشرطة.
ثمّ تولى عام 1971 “كرسي” أستاذ “تاريخ منظومات الفكر” في “الكوليج دو فرانس” أرفع مؤسسة علمية أكاديمية فرنسية. وأسس على خلفية إضراب عن الطعام لمجموعة من السجناء “مجموعة الإعلام حول السجون” ثم “لجنة عمل السجناء” وفي ذلك السياق ومن خلال تجربة الاحتكاك بعالم السجن والمساجين صدر عام 1975 كتاب “المجتمع والعقاب”، المشار له أعلاه.
منذ أواسط عقد السبعينات الماضي تراجعت النزعة النضالية السياسية لدى فوكو في إطار تبدد الكثير من الأوهام لدى العديد من المناضلين اليساريين. وأمضى فوكو في السنوات الأخيرة من حياته الكثير من وقته في الولايات المتحدة الأميركية، كما أنتج العديد من الكتب وتابع حتى عام 1984 دروسه في “الكوليج دو فرنس”.
نصف مجنون
عاش ميشيل فوكو في كنف أسرة ميسورة في مدينة بواتييه. كان والده جرّاحاً كبيراً وأراد لابنه أن يتبع نفس المسار. لكن الابن كان مأخوذاً منذ طفولته بعلم التاريخ. كانت حياته المدرسية مزيجاً من النجاح والفشل.
حيث كان ضعيفاً جداً في مادة الرياضيات ومبرّزاً في اللغة الفرنسية والتاريخ. ولم يحصل بمادة الفلسفة في امتحانات الحصول على الشهادة الثانوية سوى على 10 درجات من أصل 20، أي حصل على الحد الأدنى المطلوب للنجاح.
دخل ميشيل فوكو إلى مدرسة المعلمين العليا التي كان من طلبتها قبله جان بول سارتر وريمون آرون وغيرهما من كبار مفكري فرنسا. ويصف “ديدييه اريبون” صديق فوكو وكاتب سيرة حياته تلك الفترة بكتابة ما مفاده: “كان يتخاصم مع الجميع ويبدي سلوكاً عدوانياً حيال الآخرين، ونوعاً من جنون العظمة. كان فوكو يحب إبراز العبقرية التي كان يدرك أنه يحملها. هكذا وجد نفسه بسرعة موضع شجب من جميع زملائه. واعتبروه نصف مجنون”.
قلق وجودي
حاول ميشيل فوكو “الانتحار” عام 1948 ليتم إنقاذه في المستشفى. ومما يُنقل عنه أنه أجاب أحد أصدقائه عندما سأله: إلى أين أنت ذاهب، بالقول: أنا ذاهب إلى أحد المتاجر كي اشتري حبلاً لأشنق نفسي. لكن بالتوازي مع نزعة الانتحار كان فوكو مثابراً جداً على العمل ونهماً في قراءة الكتب.
خلال سنوات 1951 ـ 1955 عمل فوكو أستاذاً لعلم النفس في مدرسة المعلمين العليا بناء على طلب من الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير. ومن خلال اهتمامه بعلم النفس خرج بعمل شهير آخر له هو “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”. وكان قد نال شهادة الدكتوراه عام 1961 على أطروحة ناقش فيها نفس الموضوع.
إضاءة
ميشيل فوكو فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون، وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون.
ابتكر مصطلح “أركيولوجية المعرفة”. تُوفيّ في مستشفى باريسي بتاريخ 25 يونيو من عام 1984. ومن أهم مؤلفاته (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) و(المرض العقلي وعلم النفس)، و(ولادة العيادة: اركيولوجيا النظرة الطبية)، و(الكلمات والأشياء)، و(اركيولوجيا المعرفة نسق الخطاب)، و(المراقبة والعقاب)، و(تاريخ الجنس – ثلاثة مجلّدات).
حضور بارز في تجاذبات القرن العشرين الفكرية
تبرز أهمية ميشيل فوكو الفكرية عبر البرامج والندوات الكثيرة في العديد من بلدان العالم، خاصّة في فرنسا، بلاده، لكن أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يؤكّد فلاسفة وباحثون عديدون تأثرهم بفكر الفيلسوف الفرنسي من بينهم غاري بيكر في مجال الاقتصاد الذي لم يتردد في التصريح ذات مرّة ما مفاده:
“لقد فهم فوكو جيّداً ما كنت أريد قوله”؛ وجوديت بتلر في مجال بحثه الخاص بـ”نظرية النوع”، حيث يؤكّد أنه استلهم الكثير من أفكاره من عمل ميشيل فوكو الشهير الذي يحمل عنوان “تاريخ الجنس”؛ وآن لورا ستولر بمجال الدراسات ما بعد الاستعمارية ـ الكولونيالية… وغيرهم كُثر، حيث شكّل فوكو مدرسة مستقلة حظيت بحضور بارز في تجاذبات القرن العشرين الفكرية.
في الطليعة
لا شك أن فوكو قد احتل، خاصّة فيما يتعلّق بشرح العلاقة بين السلطة والمعرفة، مرتبة المنظّر الفكري والفلسفي الأول بين فلاسفة ومفكري فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد فاقت شهرته تلك التي حظي بها عمالقة آخرون من جيله مثل جاك لاكان ، أحد ورثة سيغموند فرويد، وبيير بورديو، عالم الاجتماع، والفيلسوفين جيل ديللوز وجاك ديريدا.
ومن الأقوال المعروفة التي كان قد نطق بها ميشيل فوكو تأكيده “أن القرن ـ العشرين ـ سيكون ديللوزيا”، أي نسبة إلى جيل ديللوز صديق فوكو و”منافسه ” على الصعيد الفلسفي. ما يمكن قوله، دون الخوف كثيراً من اقتراف خطأ كبير، هو أن القرن العشرين هو بالأحرى “فوكويا ـ نسبة إلى فوكو” بامتياز.
لكن ميشيل فوكو لم يأبه كثيراً لمسألة المكانة الاجتماعية ولم يسع أبد إلى “النجومية”. ذلك على خلفية رفضه العميق لقيم الاستعراض التي ولّدها المجتمع الاستهلاكي. بل جعل في مقدمة اهتمامه نقد تلك القيم والتشكيك بها على أساس أنها كانت بمثابة “أدوات” في خدمة السلطات في سعيها للسيطرة على المستويات الفردية والجماعية.
مصدر التأثير الفكري والفلسفي الأول بالنسبة لميشيل فوكو يمكن أن نجده لدى الفيلسوفين الألمانيين فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر. وقد مثّلت أعماله بجوهرها نقداً عميقاً للمعايير الاجتماعية السائدة وللآليات “العمياء” التي تنتهجها السلطات بغية ممارسة سيطرتها على الأفراد والمجموعات الخاضعة لها. ذلك عبر مؤسسات تبدو أنها “حيادية” مثل الطب والعدالة والعلاقات العائلية. كما أولى فوكو اهتمامه لدراسة لـ”الهويات الفردية والجماعية” من خلال العلاقة مع الآخر ومع الذات.