ترجمة : محمد الجرطي
محمد فاتح غزل
كما هو الحال في رواية “شعلة الملكة لوانا الغامضة”، حيث يقوم بائع كتب قديمة فاقد للذاكرة بإعادة قراءة كتب مرحلة طفولته، فإن أمبرتو إيكو المفتون بالكتب المصورة وكتب الروايات الشعبية يعبر عن شغف عميق بالأبطال الخارقين.
أمبرتو إيكو بنفسه رجل السيميولوجيا الأعلى ورجل الثقافة والرواية والفكر يحدد بحس فكاهي ورؤية ثاقبة لأبطاله الروائيين مكانتهم ووظيفتهم الأسطورية.
هكذا في عمله “من السوبرمان إلى الإنسان الأعلى” ضم أمبرتو إيكو عدة مقالات مكتوبة بين سنة 1962 و1976.
كان ذلك في حقبة أسطورية مع ظهور كتاب “الأساطير” وبحوث نقدية “للكاتب الفرنسي رولان بارت الذي نشر إحدى كتبه عن الإنسانية المتفوقة في مجلة “التواصل”.
تحت ستار السيميائي المرح، يغوص أمبرتو إيكو في بنية نماذجنا لدراسة الأنا البشري ومجتمعاتنا وليدة متخيل المبدعين ورجال الفكر. كصدى لملاحظة غرامشي الذي حرك قريحة أمبرتو إيكو حين عزا الإنسان الأعلى النيتشوي إلى الكونت دي مونت كريستو، فإن غلاف الترجمة الفرنسية لعمل أمبرتو إيكو تظهر عليه صورة نيتشه مع جيمس بوند المسلح ببندقية طويلة.
“من السوبرمان إلى الإنسان الأعلى” يُعتبر هذا العمل الجريء خلاصة من البلاغة وإيديولوجيا الرواية الشعبية حيث يعري الأبطال الخارقين في هذه التحف الروائية الرائعة كما هو الشأن في المسلسلات والروايات الخيالية.
تكشف روايات إيكو عن شغف وتبحر واسع بتاريخ القرون الوسطى وولع بالجماليات وإدراك عميق بتعقيدات المجتمع الذي يغوص فيه أمبرتو إيكو لدرجة تدهش القارئ برواياته الحلزونية.
تبدو رواية أمبرتو إيكو الموسومة بـ”العدد صفر” بمثابة كتيب صغير نسبياً بإيقاع سريع إلى حد ما يثري مسار الكاتب التأليفي في الإبداع المعاصر المرتبط بالسياق الثقافي والتاريخي. لكن العلاقة مع مخاوف إيكو ككاتب تبدو واضحة في هذا العمل الأدبي: إنه مؤلف “حرب الزائف” التي تعود للظهور وسط هذا الهجاء اللاذع للصحافة من منظور الراوي الصحفي…
تكشف رواية إيكو “العدد صفر” عن مؤامرة معقدة يقودها رجل يدعى كولونا، وهو كاتب فاشل وضعيف يعاني الاكتئاب على طريقة الكاتب الفرنسي ميشيل هولبيك وبصعوبة يكافح من أجل تغطية نفقاته. في مدينة ميلانو الإيطالية يطلب شخصاً يدعى سيمي من الصحفي كولونا، وهو رجل في عامه الخمسين القيام بمهمة غريبة.
يطلب سيمي من كولونا إنجاز كتاب بعنوان “الغد: الأمس” على أن يتطرق الكتاب لتفاصيل عمله في صحيفة الغد حيث سيدفع الناشر مكافأة مغرية ليحكي الصحفي في شكل ملحمة كواليس المغامرة الصحفية من أجل نشرها في المستقبل القريب. يعنون الكاتب الصحيفة بالعدد صفر وتتضمن حقائق تزعزع مصير الأغنياء والشخصيات النافذة في إيطاليا. في الواقع يدرك هؤلاء الأثرياء المتسلطين أن الصحيفة لن ترى النور ولكنها تبقى سيفاً مسلطاً على رقابهم. يمنح الناشر المسمى سيمي ترقية للصحفي كولونا ليصبح المصحح والمُراجع اللغوي إلى جانب مهمته في كتابة العدد صفر، وكل ذلك بتوجيه من الناشر الوقح والساخر سيمي مع أربعة من الرجال وامرأة لقيادة مؤامرة “العدد صفر” للصحيفة التي لن ترى النور أبداً. كولونا الصحفي والراوي شخص فاشل في حياته المهنية مثل كل عناصر الطاقم الصحفي الذين تم اختيارهم مع فارق وحيد هو أنه كان يعرف مسبقاً أن صحيفة الغد لن يتجاوز عددها الصفر في حين أن الصحفيين الآخرين كانوا يعلقون آمالاً عريضة على هذه التجربة ويقترحون بشكل جاد المواضيع والتحقيقات ونوعية الأخبار.
إن الكتاب الذي كُلف به الصحفي كولونا لن يوقعه باسمه، بل باسم المدير سيمي وسيحكي فيه عن قضايا لم تقع وعن استحالة وجود صحافة مستقلة ونزيهة مقابل راتب شهري مغري. إلى جانب الصحفي كولونا، هناك الصحفي براغادوتشيو وهو صحفي مهووس بنظريات المؤامرة ينجز تحقيق عن الرئيس الفاشي موسوليني حيث يجمع معلومات سخيفة تؤكد أنه لم يمت، وإنما تم تهريبه إلى الفاتيكان ومن بعد إلى الأرجنتين وظل يعيش هناك في انتظار لحظة عودته إلى السلطة لإيقاف الزحف السوفياتي. وهكذا يتضمن العدد صفر من صحيفة الغد مجموعة من القضايا المثيرة وملفات تهدد أصحاب المال والنفوذ وإن كان الناشر في الواقع لا يأبه سوى بابتزاز النافذين من ذوي السلطة والمال في ايطاليا بهدف التسلل إلى محيطهم الاجتماعي.
احتفلت الصحافة بطريقة ماسوشية أوبطريقة تجعلها تتبرأ من أي اتهام لهذا النقد اللاذع للصحافة والذي قاده ببراعة الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو.
تجمع هذه الرواية النقدية “العدد صفر” مقتطفات من الهوس والرذائل وفساد وسائل الإعلام لإغراء القارئ وتملقه. إن المساهم المرجعي للصحيفة هو قائد زائف يجبر الصحفيين على الاستقصاء بمثالية قبل نشر أي خبر وبعبارة أخرى: “كل كلمة يجب أن نعرف أنها ترضي القائد”.
يكشف أمبرتو إيكو في هذه الرواية – هجاء ضد الصحافة الفاسدة عن مرحلة قاتمة من تاريخ إيطاليا كما يوجه نقداً لاذعاً لوسائل الإعلام والصحافة المكتوبة من خلال سرد وقائع لصحفيين على استعداد للتنازل عن كل القيم والمبادئ من أجل كسب المال والشهرة حيث تكشف الرواية عن زيغ الصحافة عن قيمها لتصبح أداة في يد رجال الأعمال الفاسدين. وبطريقة مشوقة وساخرة ينقلنا أمبرتو إيكو إلى عالم الصحافة المتملقة لذوي النفوذ.
نكتشف وراء هذا الخيال هجاء لاذع ضد سيلفيو برلسكوني وتواطؤ سلطته السياسية مع امبراطوريته الصحفية المتورطة في قضايا فساد ذات رائحة كريهة. ليس من غير ذي صلة الإشارة إلى أن 1992 كان عام عملية “الأيدي النظيفة”. هذا الهجوم المناهض للفساد الذي نظف الطبقة السياسية، ولكن أيضاً اغتيال القاضي فالكوني من قبل المافيا. “عين العاصفة” للفساد تخفي في داخلها أبطالنا، والمتحمسين والمحتالين المثيرين للاشمئزاز.
للأسف، تكهنات حول حجم الأخبار الجاهزة للنشر من أجل الابتزاز للحث على الشك والارتياب، صفحتين من النكاث تجعل القارئ في حالة تقهقر كما هو الحال في حشو أجوف. يعرف القارئ ميول كاتبنا إيكو في عمله “دوار اللوائح”، لكن صفحتين أيضاً لمختلف مؤسسي أوامر مالطا كفيلة بإزعاج صبرنا. هذا دون أن ننسى الحكاية الطويلة المفصلة عن هروب موسوليني المفترض الذي أتاح للصحفي براغادوتشيو تصور مؤامرة مضحكة عن هروب موسوليني إلى الأرجنتين وعودته المحتملة. وما تلا ذلك من فرضيات معقدة عن الشيوعيين والحلفاء والفاشيين الجدد والمافيا والألوية الحمراء ووكالة الاستخبارات المركزية…
لكن استيقظ الصحفيون وهم يجهزون العدد صفر على اغتيال صديقهم المهووس بالمؤامرات فانتهت تجربة العدد صفر التي حاول من خلالها أمبرتو إيكو النفاذ إلى عالم الصحافة وما يحدث فيها من فظاعات مخزية حيث يسرد إيكو عودة اليمين المتطرف وما ميز مرحلته من فساد استشرى في جميع الأوساط.
بعيداً عن كون هذه الرواية هي جسم طائر مجهول في مسار إيكو الروائي، فإن رواية “العدد صفر” تتسق تماماً مع الرؤية الفكرية للكاتب التي بدأت سنة 1980 في سجلات “انتشار وسائل الإعلام” و”الثقافة باعتبارها مشهداً” و”التزييف والتوافق” التي تم تجميعها في كتاب “حرب الزائف”. كما هو الحال في كتاب “القارئ في الحكاية”، حيث تم تحليل النزوع الأيديولوجي للقراء، فإن رواية “مقبرة براغ” هي بهذا القدر إعادة كتابة للرواية المسلسلة على طريقة يوجين سو تطفح بسراديب الأموات والأكاذيب والمؤامرات وتفوح منها رائحة “برتوكولات حكماء صهيون” العفنة، هذا الإنجيل السيئ السمعة المعادي للسامية. وهكذا فإن رواية “العدد صفر” هي رواية أطروحة صغيرة في متناول كل القراء حتى غير المعتادين على المقالات النقدية، إنها “حرب عصابات سيميائية” حيث “تخضع الدولة للشخص الذي يسيطر على الصحافة ووسائل الإعلام”.
إن البحث عن الحقيقة الصحفية حالما تلتقطها وسائل الإعلام كما تكشف عن ذلك بشكل ساخر رواية “العدد صفر” الذي لن يرى النور أبداً يتم التلاعب بها أولاً من قبل رجال السياسة الماكرين والأيديولوجيين المتعصبين وأصحاب رؤوس الأموال ورجال المافيات فتسقط في براثين الزيف والانحلال والزيغ عن القيم. هل يعني هذا أن أمبرتو إيكو يتحول نحو نظرية المؤامرة المعممة؟ من الخطأ ألا نتصور أن فن السخرية لدى أمبرتو إيكو لا يتجه صوب هذه النظرية المزدهرة “نظرية المؤامرة اليهودية المتربصة في كمين”. إن المغزى الأخلاقي والقيمي من هذه الرواية “العدد صفر” يبقى مع ذلك: “الشك، الشك، وهكذا نعثر على الحقيقة”.