فوكو .. واحتطاب الجسد

كريم الفحل الشرقاوي

كريم الفحل الشرقاوي

غالبا ما يتبدى لي ” مشيل فوكو ” بصلعته المصقولة .. ككبسولة فضائية تستعد دوما للإنطلاق و اقتفاء خطاب ” الحقيقة ” و لو في جوف باعوضة البطيخ البنغالي … لذا كان بودي لو أن صاحب أركيولوجيا المعرفة و ناحت سوسيولوجيا الجسد كان حاضرا معنا اليوم ليقرأ و يفكك لنا تضاريس هذا العالم الذي تحول إلى معتقل كبير لهذه الأجساد الوبائية الذي استحالت قنافذ برية يستحيل الارتماء و التمرغ في أحضانها .
لا جدال أن صديقنا فوكو يعتبر من أهم الفلاسفة و المفكرين الغربيين الذين نحتوا خريطة سوسيوثقافية للجسد … بل إن نسقه الفكري يكاد يكون تدوينا أخدوديا لتاريخ الجسد المقموع في تعالقه مع السلطة … والسلطة هنا كما يطرحها فوكو لا تختزل في الدولة و أجهزتها الضبطية … وإنما السلطة باعتبارها ” منظومة ” مجتمعية تنتج خطابا مهيمنا تكرسه مؤسساتها الاجتماعية والسياسية و التربوية و اللاهوتية و الإعلامية … من هذا المنطلق سيقعد فوكو لوعي سوسيولوجي مغاير في تعاطيه مع نظام الخطاب الرقابي و العقابي الذي يمارس الهيمنة و التحريم و الكبت و التطبيع و التطويع و التدجين وتدبير طاقات الجسد … و هو الأمر الذي دفعه في البداية لرفع شارة الاحتجاج في وجه الكوجيطو الديكارتي الذي يتسامى بالفكر ويحشر الجسد في خانة المدنس الذي لا يكاد يكف عن تصريف النزوات و الشهوات و الرغبات المكبوتة التي غالبا ما تقف حاجزا أمام سمو الفكر ونقاء الروح . لهذا سيقوم فوكو بدحض ثنائية الفكر والجسد ومعها كل الثنائيات الاعتباطية المتناسلة من صلب الفكر الفلسفي الكلياني الجوهراني … وهو الطرح الذي يتقاطع مبدئيا مع نتشه الذي يعتبر الجسد هو الأصل والجوهر وأن الغريزة البشرية تختزن وعيا فطريا ” خارقا ” يجسد إرادة القوة في مواجهة إرادة المحو التي أنتجتها القيم السائدة و المستبدة.

و رغم أن فوكو يلتقي مع نيتشه في إعلاء المؤشر القيمي للجسد غير أنه يختلف مع هذا الأخير في نحته لجسد قادر على استيعاب القوى الاجتماعية المهيمنة … والحال أن الجسد مازال منذ ليل الأزمنة القديمة يجتر أذيال الهزيمة … و مازال يتأرجح كتاريخ وكسيرورة لانتهاكات سطوة ” الفكر” ااجوهراني … و مازال يصلب كل يوم كأضحية من أضاحي ” الحقيقة ” الذي تتوزع سلطتها و نفوذها بين اللاهوتي والسياسي والاجتماعي والتربوي و القيمي … بل إن تاريخ التجمعات البشرية السوسيواقتصادية منذ الإقطاعية الفيوضالية إلى النيوليبرالية المتوحشة ماهو إلا تاريخ لاحتكار واحتواء وتطويع طاقات الجسد .
نقطة التحول الصميمية التي حفرها الفكر الفوكوي هو نحته لسوسيولوجية الجسد في اشتباكه مع سلطة الخطاب المضمر الذي تنتجه مؤسسات الرعاية الاجتماعية و التربوية و الضبطية والرقابية … ما استفزه و حفزه لمداهمة فضاءات ومناطق غير مستباحة في مسار الفكر الفلسفي … حيث سيترجل عن صهوة الأطروحات المتعالية ويتنصل من متاريس السرديات الشمولية وسينفلت من بين ألغام التنظيرات المفارقة ليخترق بوابات المؤسسات الضبطية والتربوية والقمعية … كالسجن والمدرسة والملجأ ودور العجزة والمعزل الطبي … محاولا تفكيك خطابها المنتج لآليات التطويع والتطبيع والتدجين والمراقبة والعقاب والإقصاء … إنها مؤسسات اجتماعية متمرسة على انتاج قيم ثقافية عقابية وجزرية وقهرية وتطويعية وترويضية للجسد .
لهذا سيرصد فوكو الجسد كنص جاذب لسلطة الخطاب المؤسساتي … و لكون هذا الخطاب يضمر نسقه القهري سواء كان خطابا أخلاقيا أو سياسيا أو قيميا … فإن قراءة الجسد هو في حد ذاته قراءة لسلطة هذا الخطاب ولتشكلاته وامتداداته المجتمعية باعتبار الجسد وعاءا وخزانا لقهريته واستبداده وتمترسه … لذا سيعمد فوكو إلى تفكيك إواليات الخطاب الممأسس ومعاقرة سلطته المضمرة والصريحة واقتحام كواليسه وسراديبه وأقبيته المعتمة … مستحضرا سلطة المؤسسات الاجتماعية في علاقتها بالجسد الطاقة ( المعمل ) والجسد الجانح ( السجن ) والجسد المجنون ( المعزل الطبي ) والجسد المقصي ( دور العجزة ) والجسد المتحلل (المشرحة ) والجسد القطيع ( الأحزاب ) والجسد اللذة ( دور الدعارة ) … مستدعيا ترسانة نقدية تمتح من أركيولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا الجسد دون الركون إلى تصفيفات ” اللوغوس ” المتكلسة .. و إنما بمجاورة ومحاورة ومعاقرة المؤسسات المحتكرة للحقيقة والتاريخ والوجدان … مؤكدا بأن العقل الغربي قد انتقل عبر تاريخه من مرحلة قمع الجسد الى مرحلة ضبط الجسد تكنولوجيا وإعادة صناعته ونمذجته واستثماره (ماركوتينغ الجسد ) . و هو ما تمظهر في بعض كتبه الشهيرة ك “” نظام الخطاب ” و ” المراقبة والمعاقبة ” و ” استعمال المتعة ” و ” تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ” … وغيرها من إصداراته ومقالاته ومحاضراته في الكوليج ذوفرانس .
إن الجسد في النسق الفوكوي تناص سوسيوثقافي متجدد … إنه نص منتج لرموزه و علاماته و طقوسه وشعائره وحفرياته و خصوبته السرية … و كما سبق لفوكو في مرحلته البنيوية أن أعلن موت الانسان ك ” فكر ” كلياني … سيقوم في مرحلة ما بعد البنيوية بتشييع الجسد الذي نهشته النظم الاجتماعية والمؤسسات التربوية و اللاهوتية و الاحتطاب السياسي المدنس وغول النيوليبرالية المتوحشة التي أطلقت العنان لآلتها الجهنمية حيث الجسد حطبها الودود الوديع المطيع.

Loading...