إجابة كافكا

رولان بارت

ترجمة: يوسف خليل السباعي

“في الصراع بينك وبين العالم، مساعدة للعالم”

لقد خرجنا من حالة هي حالة الأدب الملتزم. إنها نهاية الرواية السارترية، والضعف الرصين للرواية الاشتراكية، وشائبة المسرح السياسي، كل ذلك مثل موجة تتراجع، يتركنا نكتشف موضوعا متميزا وصلبا بصورة خاصة: الأدب، والآن، من جهة أخرى، فإن موجة معاكسة تسترجعه، هي موجة تحرير معلن، عودة إلى قصة الحب، حرب على ” الأفكار”، عبادة الكتابة الجيدة، والامتناع عن الاهتمام بدلالات العالم، إذ أن كل خلفية جديدة للفن تحدد لنفسها غاية تتهيأ من دوارة موافقة بين الرومانسية والمرح، وبين الأخطار (الطفيفة) للشعر والحماية ( الفعالة) للذكاء.

فهل سيكون أدبنا، والحالة هذه، محكوما عليه دون انقطاع بهذا الذهاب والإياب المضني بين الواقعية السياسية والفن للفن، بين أخلاقية الالتزام وصفائية جمالية، وبين التلويث والطهارة؟ ألا يمكن لأدبنا أن يكون إلا ركيكا على الدوام ( إذا لم يكن إلا ذاته) أو غامضا ( إذا كان شيئا آخر غير ذاته)؟ ألا يمكن له إذن أن يؤدي دورا مناسبا وصائبا  في هذا العالم نفسه؟ ثمة الآن، على هذا السؤال، إجابة دقيقة هي: كتاب كافكا لمارت روبرت (1). فهل كافكا هو الذي يجاوبنا؟ نعم، بالتأكيد ( وذلك لأنه من الصعب تصور تفسير أكثر تدقيقا من تفسير مارت روبرت)، إلا أنه يجب أن نتفق مع ذلك، ذلك أن كافكا ليس هو الكافكاوية.

فالكافكاوية، منذ عشرين سنة، وهي تغذي الآداب الأكثر تناقضا، بدءا من كامو إلى يونسكو. فهل يتعلق الأمر إذن بوصف الهول البيروقراطي للعصر الحديث؟ إن المحاكمة والقصر ومستوطنة العقاب  تشكل نماذج مضنية ومستنفدة، فهل يتعلق الأمر بعرض للادعاءات الفردانية في مواجهة اجتياح المواضيع والأشياء؟

أما المسخ فهي خدعة مكسبة ونافعة، إن الأثر الأدبي لكافكا يتأقلم مع كل الناس ، غير أنه لا يستجيب لأحد، صحيح أننا قليلا ما نفحصه، إذ ليس فحص كافكا هو ما يجعلنا نكتب في الظل عن موضوعاته ، وكما تكلمت، بشكل أفضل، مارت روبرت، فإن العزلة، الاغتراب، البحث، ألفة العبث، وباختصار ثوابت ما ندعوه بالعالم الكافكاوي لاينتسب إلى كل كتابنا حيث أنهم امتنعوا عن الكتابة لفائدة عالم الملك والمال ( الموجودات.م) monde de l’avoir ؟ إن إجابة كافكا، في الواقع، تتوجه إلى ذلك الشخص الذي فحصه بقدر المستطاع، إلى الفنان.

هذا ما تقوله لنا مارت روبرت: إن مهارة كافكا توجد في تقنيته، هاهنا توجد غاية جديدة ليس، بالنسبة إلى كافكا فحسب، وإنما بالنسبة إلى أدبنا برمته، بحيث أن تفسير مارت روبرت في شكله المتواضع والبسيط  ( أليس، بالإضافة إلى ذلك، كتاب حول كافكا وصادر عن سلسلة مستحبة ومعممة؟) بشكل يعمق بحثا طريفا، مساهما  بهذه الفائدة، وبهذا الغذاء القيم للذهن الذي نشأ عن توافق ذكاء ما  واستجواب ما. وذلك لأننا، بوجه الإجمال ، إن كان هذا يتبدى مفارقا ولامعقولا، لانملك ولانعرف أي شيء تقريبا عن التقنية الأدبية ،عندما يفكر كاتب ما في فنه ( وهذا أمر نادر وممقوت بالنسبة لمعظمهم)، فذلك لأجل أن يتحدث لنا عن كيفية تصميمه للعالم، مانوع العلاقات التي يصونها معه، وماهو الانسان في نظره، وبكلمة واحدة، فإن كل شخص يتكلم على أنه واقعي ولايتكلم أبدا عن كيف ذلك، والحال أن الأدب ليس إلا واسطة مجردة من العلة والنتيجة: ولا ريب أن هذا الشيء ذاته هو الذي يحدده ويعرفه. وبالتأكيد فإنه باستطاعتكم أن تباشروا سوسيولوجية للمؤسسة الأدبية، على أنكم لن تتمكنوا من حصر فعل الكتابة لامن خلال لماذا ولا من خلال باتجاه ماذا. إن الكاتب شبيه بحرفي يصنع برصانة شيئا معقدا دون أن يعرف وفق أي نموذج ولا أية ممارسة، مماثل لذاتية الانضباط لاشبي L’noméostat d’Ashby، فأن نتساءل عن لماذا نكتب، فذلك قبلا ارتقاء إلى اللاشعور السعيد والمغتبط للملهمين، بيد أنه ارتقاء ميئوس منه، إذ ليس ثمة إجابة ما، فبوضعنا جانبا الطلب والنتيجة باعتبارهما إثباتات للغياب تجريبية alibis empiriques، فضلا عن كونهما دوافع وأسباب حقيقية، يغدو العمل الأدبي بدون علة وبدون نتيجة  وذلك لكونه، وبالضبط، قد جرد من كل قانون: فهو يعرض نفسه على العالم دون أن تلجأ أية ممارسة إلى أن تشيده أو تبرره: ذلك أنه عمل لازم قطعا، إنه لا يغير أي شيء، كما أن لاشيء يطمئنه ويرسخه. وإذن؟ كذلك فإن هذا العمل، وهاهنا توجد مفارقته، يستنفد داخل تقنيته، فهو لا يوجد إلا في حالة الأسلوب. وهكذا فإن كتاب كافكا لمارت روبرت يستبدل السؤال القديم (الذي لا طائل تحته): لماذا نكتب؟  بسؤال جديد هو: كيف نكتب؟ وهذه الكيف تستنفد لماذا: فما أن يتكشف المأزق دفعة واحدة حتى تتبدى حقيقة ما. وهذه الحقيقة، هذه الإجابة لكافكا ( إلى كل من يرغب في الكتابة) هي ما يلي: إن كائن الأدب ليس آخر سوى تقنيته.

وبوجه الإجمال، فإننا إذا ما نقلنا هذه الحقيقة إلى عبارات سيمانتيكية فإن ذلك يعني بأن خصوصية الأثر الأدبي لا تقف على المدلولات التي تحتويها (فوداعا لنقد ” الأصول” و” الأفكار”)، وإنما على شكل الدلالة فقط. إن حقيقة كافكا ليست هي عالم كافكا (فوداعا للكافكاوية)، إنها علامات هذا العالم، كما أن الأثر الأدبي ليس قطعا إجابة على سر العالم، إن الأدب ليس وثوقيا على الإطلاق، فالكاتب بمحاكاته للعالم ومجموعة أساطيره (ولقد أجادت كثيرا مارت روبير  بتخصيص باب من بحثها لمسألة  المحاكاة، باعتبارها وظيفة أساسية لكل أدب عظيم) ليس بوسعه أن يستوفي غير علامات بدون مدلولات: إن العالم مكان مفتوح باستمرار على الدلالة، بيد أنه خائب من خلالها بدون انقطاع. فالأدب بالنسبة للكاتب هو تلك العبارة التي يتكلمها حتى الموت: تلك التي لن أشرع في العيش قبل أن أعرف ماهو معنى الحياة.

ولكن أن يقال بأن الأدب ليس إلا فحص واستجواب للعالم، فهذا القول لا أهمية له إلا إذا اقترحنا وقدمنا تقنية حقيقية وخالصة للفحص والاستجواب، مادام ينبغي على هذا الفحص والاستجواب أن يستمر ويصمد عبر محكي بشكل جازم ( assertive (. إن مارت روبير ت توضح جيدا بأن محكي كافكا ليس منسوجا من الرموز، مثلما قيل لنا مرات عديدة، وإنما هو ثمرة تقنية مغايرة تماما، هي تقنية التلميح L’allusion.

إن الاختلاف يرتبط بكافكا بأسره، فالرمز (مثلا، صليب المسيحية) هو علامة مؤكدة وحقيقية، إنه يثبت تماثلا ( جزئيا) بين شكل وفكرة، حيث أنه ينطوي على تأكيد وتحقق، فإذا كانت صور (figures وأحداث المحكي الكافكاوي رمزية، فإنها ترجع إلى فلسفة وضعية ( حتى ولو كانت ميئوسا منها)، وإلى الإنسان الشامل: فنحن ليس باستطاعتنا أن نختلف عن معنى رمز ما، وإلا كان الرمز ناقصا، والحال أن محكي كافكا يبيح رموزا عديدة ومستساغة بالتساوي، بمعنى أنه لا يثبت أية واحدة منها.

وأيا كان التلميح، فهو يحيل الحدث الروائي إلى شيء آخر غير ذاته. ولكن إلى ماذا يحيله؟ إن التلميح قوة ناقصة، ذلك أنه يتخلص من التماثل حالما يقرره ويقبله. إن ( ك) قد اعتقل بأمر من المحكمة، وتلك صورة مألوفة للقضاء. غير أننا نخبر بأن هذه المحكمة لا تتبين الجرائم على الإطلاق مثلما يتبين ذلك قضاؤنا: فالمشابهة خائبة دون أن تمحي وتندثر مع ذلك. والخلاصة أن كل شيء، كما عللت ذلك جيدا مارت روبيرت، يصدر عن نوع من الإدغام السيمانتيكي: إن (ك) يحس بأنه معتقل، وكل شيء يقع كما لو كان ( ك) معتقلا بالفعل (المحاكمة)، إن أب كافكا يصفه بالطفيلي (parasite)، وكل شيء يقع كما لو كان كافكا قد تحول إلى طفيلي ( المسخ) فكافكا يؤسس أثره الأدبي وذلك بحذف كما لو بترتيب: على أن الحدث الداخلي هو الذي يغدو الطرف الغامض للتلميح.

فنحن ندرك أن التلميح، باعتباره تقنية خالصة للدلالة، يلتحم في الواقع بالعالم بأسره، بما أنه يعبر عن العلاقة بين رجل غريب وبين لغة شائعة: نسق (ذلك الشبح الممقوت من طرف كل مقاوم للمذاهب التعقلية Anti-intellu-tualismes أنتج واحدة من  الآداب الأكثر خطورة التي اطلعنا عليها. فعلى سبيل المثال ( تتذكر مارت روبيرت)، أنه يقال عادة: مثل كلب، حياة كلب، كلب يهودي، إذ أنه يكفي أن نكون من عبارة استعارية موضوعا محشوا بالسرد، وإرجاع الشخصية إلى المجال التلميحي، حتى يصبح الرجل المشتوم والمهان كلبا حقيقة: فالرجل الذي يعامل مثل كلب هو كلب. إن تقنية كافكا.. والحالة هذه، تنطوي، في بادئ الأمر، على اتفاق مع العالم وانقياد للغة الشائعة، بيد أنها على الاثر خزان، شك، وذعر إزاء رسالة العلامات المطروحة والمقترحة من خلال العالم. إن علاقات كافكا والعالم، تقول مارت روبيرت بجودة، هي علاقات مضبوطة  ومنتظمة  من خلال ثابت ( perpétuel (:نعم، لكن … وبنتيجة تقريبية، يمكن لنا أن نقول ذلك عن أدبنا الحديث برمته ( ومن هنا استطاع كافكا أن يؤسسه حقا) مادام يمزج بطريقة فذة النزوع الواقعي (نعم للعالم) بالنزوع الخلقي ( لكن…).

إن المسألة التي تفصل بين نعم ولكن هي تردد شامل للعلامات، وذلك لأن تردد العلامات هو ما يصنع أدبا ما، إن تقنية كافكا تدعي بأن معنى العالم غير موضح، وأن مهمة الفنان الوحيدة هي أن تستكشف دلالات ممكنة، والتي لن تكون كل واحدة منها مأخوذة في ذاتها سوى كذبة (ضرورية)، بيد أنها سوف تكون حقيقة الكاتب ذاتها. وهذه هي مفارقة كافكا: أن الفن يتوقف على الحقيقة، بيد أن الحقيقة، بمثابة ما لا يتجزأ، ليس في وسعها أن تتعرف على ذاتها: فقول الحقيقة، معناه الكذب، كما أن الكاتب هو الحقيقة، على أنه حين يتكلم يكذب: إن تأثير أثر أدبي لا يتموضع أبدا على مستوى جماليته، وإنما فقط على مستوى الخبرة الأخلاقية التي تجعل منه كذبة متحملة، أو، بالأحرى، كما يقول كافكا مصححا كيركيغارد ( Kierkegaard (: إننا لا نصل إلى المتعة الجمالية  للخلق إلى عبر خبرة أخلاقية ودون غطرسة.

إن النسق التلميحي لكافكا يشتغل كمثل علامة شاسعة تستكشف علامات أخرى. والحال أن مباشرة نسق دال ( الرياضيات، حتى نتناول مثالا بعيدا جدا عن الأدب) لا يعرف سوى ضرورة وحيدة، والتي سوف تكون والحالة هذه الضرورة الجمالية نفسها: الصرامة. إن كل ضعف، وكل تردد في صياغة النسق التلميحي سينتج، بشكل متناقض، رموزا ما، ويقيم لغة حازمة في مقام الوظيفة التساؤلية جوهريا للأدب.

هاهنا توجد أيضا إجابة لكافكا إلى كل من يستكشف نفسه حاليا بجانب الرواية: بحيث أن إيضاح الكتابة أخيرا وهو إيضاح بنيوي، وليس بلاغي، بدون ريب: فالأمر لا يتعلق ب ” الكتابة الجيدة” ) هو الذي يربط الكاتب بالعالم: ليس من خلال هذا الخيار أو ذاك، وإنما من خلال ارتداده نفسه: ولأن العالم ليس مكونا، فإن الأدب ممكن.

* إجابة كافكا: رولان بارث، أبحاث نقدية: ص 138-142

La Réponse de Kafka : R.Barthes . Essais critiques. P.138-142

Editions du seuil

1 – مارت روبيرت. كافكا، غاليمار، 1960، بيبيوطيك إديال.

Marthe Robert.Kafka.Gallimard.1960.coll bibiolthèque idéale

Loading...