عبد السلام دخان
قراءة أعمال غاستون باشلار Gaston Bachelard (1884-1962) تقود القارئ إلى الوقوع في سحره الفلسفي، على نحو شبيه بأحلام اليقظة، وفلسفة خيال فاتن. غاستون باشلار صانع سعادة العقل والحدس معا؛ يوجه دعوة صريحة إلى الفلاسفة لشرب ترياق الحلم، وعيش الحياة مثل قصيدة ملحمية على شاكلة الشعراء الأصلاء.
ولا ترتبط تأملات هذا الإبستمولوجي المدهش بفلسفة العلوم فحسب، بل تمتد إلى منجزه الرفيع مند عمله الأكاديمي “Essai sur la concnaissance approchée “، مرورا باعمال رفيعة من قبيل: “التحليل النفسي للنار”، “الماء والأحلام”، “الهواء والرؤى”،”التراب وأحلام الإرادة والتراب وأحلام الراحة” ، “جماليات المكان” ، “شاعرية أحلام اليقظـة” ، ” لهب الشمعة”، فضلا عن منجزه الذي تجاوز ثلاثين مؤلفا في قضايا الفيزياء وفلسفة العلوم، ولكنها ترتبط بهذا القدر المدهش من الجماليات التي منحها للشعر بوصفه أحد مباهج الحياة. وربما لهذه الأسباب اختار غاستون باشلار اعمال كل من راينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke، شارل بودلير Charles Baudelaire، اندريه بروتون André Breton، رنيه شار René Char، ليجد نفسه مولعا بالصور الشعرية في وقت يحلم فيه الفلاسفة بالمفاهيم تبعا لرؤيته، انطلاقا من “اتركه هو نفسه يتكلم”، هذه الشاعرية المرتبطة بتكثيف لحظات السكينة واليقظة الشاردة، تتجلى في قوله” في الشعر، ترافق الدهشة متعة الكلام”. باشلار الفيلسوف المولع بالصور الشعرية، وبالخيال بوصفه طاقة خلاقة لعوالم اخرى، كان يرى في الحوار ضرورة لإيقاظ العالم النائم شريطة امتلاك شجاعة الوجود، و هذا الولع بالشعر كان مرده ولعه بالصورة الشعرية وبمباهجها، وبالخيال مادام ” كل شيىء يرتج حين يرتعش النور”، ومايمنح الصور الشعرية حريتها هو طاقتها المجازية والتخييلية في علاقة وطيدة بالعناصر الأربعة: الهواء، النار، الماء، الأرض، لذلك فالكائن الإنساني في عنقه له قدر الماء الذي ينساب. بيد أن الولاء لنور الشمعة في القصيدة مرده طاقة الصورة الشعرية وقدرتها التواصلية، لذلك كان باشلار ينبه إلى ضرورة عدم إضاعة اي وقت من نور الشمعة، لذلك وصف بكونه قناص الصور، مادامت الصورة هي المولدة لحكم اليقظة، وهي إبداع للروح، لذلك ينبغي أن تكون الصورة دينماية، تضع الخيال في ارتجاج. وهذا الافتتان بظاهرية الصورة يمكن تلمسه بشكل اساس في قوله:” آه لو ان هذه الصورة التي اعطيت لي كانت صورتي حقا، صورتي بحيث تصبح موضع فخر عند قارئ عملي”(ينظر شاعرية حلم اليقظة ص 4). رفض غاستون باشلار الانزواء في الأساسات الاصطناعية، واخلص للجماليات، كرجل لايغيره الزمن، وربما لهذا السبب كان يستعمل الريشة والمحبرة رافضا استعمال القلم، بل إنه رفض بشدة إدخال الكهرباء إلى بيته. رآه العالم لأول مرة على التلفاز بمناسبة فوزه بالجائزة الوطنية الكبرى للآداب، لكنه كان لغزا محيرا خاصة في قوله: “انظروا إلى ارجلي، فأنا فيلسوف للعلوم، انظروا إلى أجنحتي، فأنا شاعر”.