د.محمد مشبال؛ ناقد وأكاديمي
1ظهرت في مؤسساتنا الجامعية العربية في مجال الدراسات النقدية المعاصرة أصوات نسائية قوية ستظل راسخة في ذاكرة الجامعيين لسنوات طويلة لا أعتقد أننا سنشهد في المستقبل القريب على الأقل جيلا نسائيا يضاهيها؛ ولعل الباحثة التونسية الدكتورة جليلة الطريطر من بين هذه الأصوات التي تساهم اليوم في صناعة الثقافة العربية المعاصرة من زاوية الحقل الذي تخصصت فيه وهو نقد “أدب الذات” أو “كتابات الذات”؛ تتميز مؤلفاتها بالعمق والدقة والأصالة. فهي مراجع لا غنى عنها للباحثين في هذا الحقل.
عندما نتحدث عن جليلة الطريطر فإننا نتحدث عن شخصية علمية أنفقت سنوات عمرها في بناء نسقها النقدي ونحت أسلوبها الذاتي ولغتها النقدية الخاصة بتفان وشغف روحي نادرين جعلا منها باحثة من الطراز الرفيع. عندما استضفناها في إطار الأنشطة العلمية ل”فرقة البلاغة وتحليل الخطاب” بكلية الآداب تطوان بالمغرب (يونيو 2022)، وبينما كانت تحاضر وتردّ على الأسئلة المثارة، كنت أصغي إليها وأنا أتأمل ملامح وجهها تتشكَّل في صورة وجه امرأة أتخيلها بأناقتها وسلاسة تفكيرها عالمة قادمة من إحدى الجامعات الأوروبية المرموقة؛ لم تكن تلك الملامح المشكّلة في نظري سوى تمثيل جسدي لمعالم الثقافة الغربية التي تشرّبتها هذه المرأة في قراءاتها وأبحاثها. فمن يتابع هذه الباحثة يعلم مقدار وثوقها في كفاءتها العلمية وإيمانها بقدراتها الذهنية، كما يعلم حجم الشجاعة الأدبية والأخلاقية التي تتمتع بها؛ فهي لا تدّخر جهدا في خوض معارك ضارية لأجل ترسيخ قيم النزاهة والأمانة العلمية في المؤسسة الجامعية التونسية؛ وإنك لتشعر وهي تحدثك عن اختصاصها التي تماهت فيه إلى درجة العشق، وكأنها تحدثك عن أحد أبنائها الذين أنجبتهم من صلبها؛ فهي تتولاه بالرعاية وتصونه ضد الشوائب التي تعلق به من المتعالمين وأدعياء المعرفة. ولطول تمرسها به واعتكافها على تدبر مسالكه، لم تركن إلى السائد المتداول فيه من أفكار، بل ابتدعت واختلقت مسالك جديدة بفضل قراءتها الدقيقة في كتابات بول ريكور وتنظيراته للسرد التاريخي، ونجاحها في استنبات مفهومه عن الهوية السردية في تربة مغايرة وهي جنس السيرة الذاتية. وبناء على هذا التحول الإبيستمولوجي في بناء تصورها قربت بين جنس السيرة الذاتية وبين التاريخ، مبتعدة بذلك عن تصور فيليب لوجون الذي هيمن على الممارسة التنظيرية النقدية العربية.
ولئن كنتُ قد قلت في مناسبة ما، إن نقادنا العرب المعاصرين يكتفون باستنساخ أفكار غيرهم من النقاد الغربيين المتفوقين في دوائر اختصاصاتهم المتنوعة، فإنني كنت أدرك مع ذلك أن هناك استثناءات؛ ولعل جليلة الطريطر أن تكون أحد هذه الاستثناءات القليلة التي تلمع في ثقافتنا النقدية المعاصرة؛ فقد سمح لها تكوينها العلمي الموسع في عدة مجالات مجاورة لاختصاصها، واطلاعها الواسع على نصوص السيرة الذاتية وكتابات الذات العربية القديمة والحديثة والغربية، أن تبني تصورها على أسس متينة وأن تملك الجرأة العلمية على الإضافة وسدِّ ثغرات التنظيرات الغربية في اختصاصها؛ منها اجتهادها في نحت عديد من المصطلحات الجديدة التي تطلبها بناؤها لتصورها، ومن ذلك وعيها بخصوصية السيرة الذاتية العربية المؤسسة لهذا الجنس، وموقفها الرافض لمقاربة السيرة الذاتية وأدب الذات مقاربة أدبية على غرار المقاربة الشعرية البنيوية التي أصلها فيليب لوجون؛ فالسيرة الذاتية لم تعد حالة خاصة من الرواية، بل حالة خاصة من السرد أو الحبكة السردية كما سيقر فيليب لوجون نفسه مراجعا أفكاره بشكل جذري.
إن إرساء الباحثة لأسس تنظير إبيستيمولوجي لأدب الذات صحّح عديدا من الثغرات المفهومية والإجرائية التي وقع فيها نقاد الأدب عندما واجهوا نصوصا مرجعية واقعية لم يألفوا التعامل معها. ولعلّ في ما وقفنا عليه في مقالة سابقة عن كتابيها ( مقوّمات السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث، بحث في المرجعيّات 2004 ) و( أدب البورتريه، النّظريّة والإبداع، 2011 ) من أفكار ما يفيد في إلقاء بعض الضوء في عتمة النقد الأدبي العربي وإنقاذه من سطوة السرديات البنيوية.
في كتابها الأخير (مرائي النساء 2022) دافعت عن أطروحة انتقدت فيها خطاب الإصلاحيين التنويريين في دعوتهم لتحرير المرأة؛ حيث كشفت أن دعوتهم لم تكن خالصة الوجه للمرأة باعتبارها كيانا قائما بذاته، بل كانت جزءا من منظومة الإصلاح الاجتماعي الذي انخرطوا فيه. وقد تصادف ظهور هذا الكتاب الضخم مع انخراطي في تحليل كتاب قاسم أمين “تحرير المرأة” تحليلا بلاغيا حجاجيا انتهيت فيه إلى جملة من الملاحظات التي ظلت من دون تفسير يسندها؛ فكان كتابها هذا مرجعا استعنتُ به لتدعيم تحليلاتي وخوض غمار حوار نقدي مع أطروحتها. ولأن الحوار مع عقل متقد ومشاعر متوهجة ليس أمرا متاحا في كل حين، فقد انتهى بنا هذا الأمر في هذا الحوار إلى تأليف كتاب مشترك توّجنا به تواصلا علميا قلّما يجود به الدهر.