قراءة في خطاب العرش..الملك محمد السادس يمد اليد مجددا للجزائر ويدعو إلى حوار صريح وبناء

في حضرة التاريخ، وعلى منصة الوطن، خاطب الملك محمد السادس شعبه في الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه العرش، كما اعتاد، بلغة موزونة بين الحزم والحكمة، لكن خلف إيقاع الكلمات ونبرة الوقار، تسربت إشارات دقيقة، موجهة إلى من كان حاضرا في الغياب إلى الجارة الشرقية الجزائر.

لم يكن الحديث عن الجزائر تفصيلا عابرا بل جاء موقعا بدقة، محملا برسائل مركبة، متقنة الصياغة، مزدوجة الوجهة، واحدة نحو الشعب الجزائري، وأخرى لا تقل وضوحا نحو صناع القرار خلف الجدار المتكلس، خطاب لا يهاجم، ولا يهادن، بل يلتقط الخيط الرقيق بين النبل السياسي والصرامة السيادية.

الملك لم يكلف نفسه عناء تسمية الأسماء لكنه منح الذاكرة المغاربية فرصة لتتنفس، ولتستعيد ما تبقى من وجدان الجوار خاطب الجزائري في قلبه، لا في خريطته. تحدث إليه كما يحدث الغائب الذي يرجى، لا الخصم الذي يقصى وفي ذلك عبقرية لا تخطئها العين.

جاء الخطاب كمن ينحت الجمل على حجر، لا يترك مكانا للصدفة كل عبارة موزونة كأنها بيت شعر في ديوان غير مكتوب. يتحدث عن وحدة المصير، عن الروابط التاريخية، عن لغة واحدة ودين واحد، لا باعتبارها شعارات عتيقة، بل كحجج دامغة ضد العزلة المفتعلة، وضد العناد الذي طال أمده.

ثم ينعطف الخطاب، دون صخب، ليشير إلى أن المغرب لا يلهث خلف أي تقارب. بل هو يعرض، ويكرر العرض، لا لأنه يفتقر إلى البدائل، بل لأنه يملك من التوازن ما يكفي ليبقى في موقع صاحب المبادرة يفتح الباب ويترك المفتاح على الطاولة.

ولأن الصحراء ليست تفصيلا في الهوية المغربية، جاءت الإشارة إليها صارخة في هدوئها، تحدث الملك عن الدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، لا بتفاخر، بل بطمأنينة من يعرف أن العالم بدأ يستوعب الحقيقة كما هي. هنا، لم تكن اللهجة مهادنة، بل راشدة، تضع النقاط على الحروف دون أن تجرح أحدا، وتذكر من يعنيه الأمر بأن الموقف المغربي لم يعد وحده في الساحة.

ثم تأتي الجملة التي تسكن في ذاكرة كل قارئ يقظ :“نحرص على إيجاد حلّ توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف.”

عبارة باذخة، تنضح بالحكمة، وتختزل فلسفة كاملة. ليست توددا، ولا تبريرا. إنها عرض شريف لمن يريد أن يعود إلى الطاولة دون أن يحني رأسه فالمغرب، وهو يمسك بمفاتيح القوة، يعرض الكرامة أيضا، لمن شاء أن يتلقفها. كأن الملك يقول: “لن ننتصر على أشقائنا، بل ننتصر معهم، إن اختاروا أن يكونوا شركاء في المستقبل، لا أسرى الماضي.”

لكن من لا يفهم لغة الكبار، سيقرأ هذا العرض على أنه ضعف ومن تعود التكلس، سيفر من مرآة الحقيقة. ومع ذلك، يواصل المغرب هذا النفس الطويل، لا بانتظار معجزة، بل لأنه يدرك أن من يملك الأرض، يملك الصبر. ومن يملك الشرعية، لا يخشى الزمن.

ولعل أعمق ما في هذا الخطاب هو صمته العميق بين السطور. لم يكن الملك يرد على أحد، بل كان يكتب على جدار الزمن موقفًا مغربيا ثابتا لا تطبيع مع العدم، ولا عداء مع الشقيق، بل مواقف تصاغ بالكرامة، وتعرض على من يملك شجاعة الإقدام.

فهل يلتقط الجار هذه الإشارات؟ هل ستنفع لغة الحُجّة حيث عجزت لغة الدم؟ وهل يجرؤ النظام الجزائري على تجاوز عقدته التاريخية مع المغرب، ويقرأ في هذا العرض مقام الدولة لا مناورة السياسة؟

الكرة الآن ليست في يد من تحدث، بل في يد من طال صمته. والرباط… كعادتها، لا ترفع صوتها. لكنها حين تتكلم، تكتب التاريخ.

Loading...