ربيع الرايس
بعد العاصفة الترابية التي أثارتها “صورة الشاحنة”، والتي كادت أن تطيح بأسقف الوعي الجمعي في تطوان، خرج علينا بيان “الحقيقة” الموعود من المديرية الإقليمية للثقافة لتطوان. وبدل أن يبرد البيان الجراح، أشعل فتيلا جديدا من الأسئلة، لكن هذه المرة أسئلة ضاحكة ساخرة!
أولا، دعونا نقف وقفة إجلال أمام الإشادة بـ “درجة الوعي ويقظة المجتمع التطواني ومثقفيه”. يا له من اعتراف! لولا هذا “الوعي اليقظ” الذي صوّر الشاحنة، لكنا الآن جميعًا نعيش في سعادة غامرة تحت مظلة “الأشغال المواتية”. إنه اعتراف ضمني بأن كاميرا هاتف ذكي واحدة تفوق في فعاليتها عشرات التقارير الرسمية في ضمان سلامة “المدخرات التراثية المهمة”. شكرًا أيها المصور اليقظ!
فالمدير الإقليمي ينفي وجود “أي تهجير للكتب”، ويؤكد أن الأمر يتعلق بـ “نقل مؤقت لبعض المحتويات الثانوية”. هذا فرق شاسع، بالطبع! فـ “التهجير” كلمة قاسية تليق بفيلم وثائقي عن مأساة، أما “النقل المؤقت” فهو أشبه بنزهة قصيرة للكتب، أو رحلة استجمام اضطرارية لـ “مرفق آخر آمن وتابع لنفس القطاع”!
لكن مهلا… ألم تكن هذه الكتب النفيسة في “مكتبة تراثية مهمة” يفترض أنها الحصن المنيع؟ وعندما تبدأ الأشغال، نكتشف فجأة أننا بحاجة إلى “مرفق آخر آمن”! هذا يضعنا أمام سيناريو عبقري: لكي نحافظ على المكتبة من التلف، يجب أن نعرّض محتوياتها لـ “النقل” المُجهد! إنها كعملية جراحية ناجحة يتم فيها إنقاذ المريض بتعريضه لحادث سير طفيف!
والأكثر إضحاكا هو تبرير النقل بـ: “أولا للحفاظ على هذه المحتويات من الإتلاف… وثانيا لفسح المجال للشركة لتنفيذ أشغال الصيانة والترميم في ظروف مواتية.” بالله عليكم، هل كانت الكتب ترفض التنحي جانبًا لتمرير مواد البناء؟ هل كانت تعرقل حركة العمال بوقوفها في الممرات؟ يا له من كرم من المدخرات التراثية التي قررت أن تضحي بوقتها في المنفى المؤقت لتوفر “الظروف المواتية” للشركة!
يختم البيان بنقطة تبعث على الطمأنينة المطلقة: “إن المحتويات المنقولة تمت معالجتها وتسجيلها ووضعها في صناديق كرطونية سميكة…”!
لنتخيل المشهد: الكتب النفيسة، المخطوطات التي قاومت قرونا من الزمن، يتم وضعها في “صناديق كرطونية سميكة”! هذه الصناديق التي نستخدمها عادة لنقل ملابس الشتاء! وكأن الصندوق الكرطوني هو التقنية الأكثر تطورا في حفظ التراث في القرن الواحد والعشرين! أما عن “الإشراف والمراقبة المباشرة لأطر المكتبة”، فنحن نرفع القبعة، لأننا متأكدون أنهم كانوا يراقبون عملية تحميل الكرطون بنفس الشغف الذي يراقبون به أندر المخطوطات.
وفي الختام، المديرية الإقليمية “تطمئن الرأي العام التطواني والوطني على مصير مدخرات المكتبة”. والحقيقة أن هذا البيان لم يطمئن أحدًا، بل أكد لنا أن يقظة المجتمع هي خط الدفاع الأخير، وأن الكتب في تطوان لا تتعرض لـ “التهجير”، بل لـ “رقصة الباليه الكرطونية” في الهواء الطلق تحت إشراف وزارة الثقافة!
شكرا للجميع، وشكر خاص لجماعة تطوان على الدعم الذي (نأمل) أن يشمل توفير صناديق أكثر سماكة في المرة القادمة!







