بقلم: محمد بشكار.
لِأكون صريحاً مع الجميع ومع نفسي وحتى لا يُضيِّع أحدٌ وهو يقرأ كلمتي وقته الضَّائع أساساً في حجْره المنزلي، أعترف أن ما أكتبه الآن دون فائدة، فقط أحاول أن أفتح بالكتابة نافذة تُطل على الجيران، عساني بالبوح أتخلص ممَّا يكتم على صدري، ومن أين لأيِّ إنسان أن يكون مفيداً وهو لا يُكرِّر في أقواله وأفعاله منذ بداية تفشي الجائحة أو أزلها، إلا (كورونا) عنوانا عريض العضلات يُلاقي بين الرؤوس بقبضته المُحكمة في فكرة أحادية، وما هذه الفكرة التي لوَّثتْ الأدمغة بمَباءتها إلا (كورونا)، هي السلطة التي صادرتْ الحرية الفردية وأسقطت بفكرها الشمولي أقوى الديمقراطيات، ونحن في حيرتنا لا نعرف أي المواقف نتخذ بين المُبايِع المستفيد من الأزمة والمُصارع بقلبه مع الأمة ؟
ومن أين الفائدة، ولا حديث إلا عن كورونا التي تجاوزتْ الإنسان لتجعل اللسان مُعْدياً، رجل الدين يتضرَّع بدعاء يستمد ديباجته بما يتناغم مع بلاء كورونا، الخبير الاقتصادي لا يجد بتحليله لوضعية الإفلاس حلا، ولكن لأنه ينطق حرف الراء غيناً، لم نسمع من كل ما قاله سوى كورونا موقنين أن الفيروس تطور على لسانه وصار كوغونا، أما رجل السياسة الذي يتضامن مع الشَّعب بوضْع الكمامة، فدبَّج خطاباً إنشائياً من النوع القافز من سطر لسطر، ولأنَّهُ لم يخْذل يوماً حُسن ظن من يريدون سماع لغة الأمل، فقد سجَّل قفزة تاريخية في خطابه وتحدَّث عن ما بَعْد كورونا، المهم كورونا فيك..فيك، في الإعلام في اليقظة والمنام، في تقارير الوزراء، في بعض الحب الذي كشف الحجْر أنه خارج قفص الزوجية وهمٌ وداخله عنفٌ، والأدهى أن كورونا لم تُنْتج ما لا يُحصى من علماء الاجتماع إلا بعد أن غاب المجتمع وتوارى عن الأنظار في البيوت، إنَّما نحن بحاجة اليوم لمن يُحرِّرنا من ذهنية التَّشابه التي تجعل الآخر يفكر بما في رأسي، وليس برأسك ورأسي عموما سوى كورونا، ألسْنا بالتداولية المُضْجِرة لذات الفكرة كما لو نتقاذف بالأرجل نفس الكرة، والأفظع أن تكون الشِّباك قريبة ومع ذلك نُخطئ الهدف!
لا أغلق فمي، ومع ذلك أقترح الصمت بديلا لأننا لا نملك آذانا بالرهافة القمينة بسماعه، فالصمت ولو لم يتحدث قد يتخذ من النسيم لساناً يُحرك الستائر بلغة أكثر انفتاحاً على الحقول، أما نحن فماذا نُحرِّك بصخبنا سوى جحافل الهارعين فزعاً للاعتصام بأقرب جُحر، وماذا يُجدينا أن نلوك نفس الفكرة بقهرها الوسواسي، ما يُجدي التكرار إذا كان عديم النافذة !
ولن أتساءل لمصلحة أي نظام تتم خندقة العقل الإنساني في فكر شمولي تحت عنوان كورونا، ولكن لن يفوت المتتبِّع لأشواط الحرب ضد الجائحة، أنْ يُدرك أنَّ سيطرة الحكومات على الوباء إنما تُقاس بالدرجة التي تُسيطر بها على المواطن، فالسلطة فطنتْ منذ غابر العصور أنَّ الإنسان بطبيعته من الكائنات المُعْدية، ويكفي أن تُشتِّت أفكاره التي تُعتبر من الأمراض المُتنقِّلة والمُنطوية على الثورة، بالنَّفْخ إعلامياً في ما يُرعبه ولو كان من صنيع الطبيعة، كورونا مثلا، يُمكن القول إننا اليوم نعيش فكرا شموليا يسود كل مناحي الحياة البشرية، ويمكن أن نسميه ديكتاتورية الوباء التي أخضعت المجتمعات لقيد فكرة استحواذية تتلاعب بالنفسيات وتقهرها، ومن تمرَّد عليها فهو ثائر عقابه الحرية.. وحتى الحرية ما أقسى عقابها اليوم بعد أن خلا الشارع من الناس وأصبح السجن بيتاً آمناً!
أذكِّر من سرقته سِكِّينة الكلمة وما زال مُستمراً في قراءتي، أن ما أكتبه الآن دون فائدة، وأنِّي فقط أمارس رياضة التَّنزه بالبصر من النافذة، وأغْبط الفراشة التي كلما حطت على زهرة وجدت لقاحاً جديداً يُساعد على استمرارية الحياة، وليْتها تحطُّ على أحد المُختبرات العلمية لتسْتشِفَّ لقاحاً يُنقذ البشرية من الجائحة، نكاد نُقْفل ستين يوما منذ أقْفلنا على أنفسنا في البيوت بعد إعلان البلاد لحالة الطوارئ الصحية يوم 16 مارس 2020، ولا أحد من الأطفال والشيوخ والشباب، يُداري اليوم شعوره بكساد الدم في العروق، بل إن الضجر يسْتنفر الأرواح حتى في أجداثِ عديمي الروح توقاً للخروج من هذا المدفن الجماعي، لقد انقلبتْ العُطلة بعد أن طال أمدها إلى اعتقال، وبما أنَّه ليس بتاريخ مُحدَّد فقد سرى في الأنفس ذات شعور الانهيار الذي ينْتابُ المحكوم بالمؤبَّد، لا أحد بعد هذه التجربة القاسية يريد عطلة، وهذه فرصة للمسؤولين ليزيدوا في الوقت أكثر من ساعة بعد أن فقدنا الإحساس بعنصر الزمن، وفرصة أيضا ليُقلِّصوا من كثرة الأعياد ببلدنا، عسى نسْتعيد وقتنا الضَّائع سُدى في هذا الحداد !
…
حُرِّر يوم الثلاثاء 12 ماي 2020 بالحجْر المنزلي بالصخيرات
…
افتتاحية ملحق “العلم الثقافي” ليوم الخميس 14 أبريل 2020