بقلم: ابراهيم العريس.
الحكاية في الأصل صينية. والأجواء على المسرح صينية، من الديكور الى الملابس الى الأقنعة حتى الموسيقى والنظرات صينية… لكن العمل بريختي خالص. بل هو بريختي ينتمي الى لغة المسرح الخالصة بعدما قدم، بصفته واحداً من الاعمال القليلة لسيد المسرح الألماني الحديث في القرن العشرين، الذي يقدم كدراما نثرية خاصة بعيداً من تلك الاجواء الموسيقية التي كانت غالباً ما تغلف اعمال برتولد بريخت في تلك المرحلة. والحكاية التي نتحدث عنها هنا هي مسرحية «الانسان الطيب من ستشوان» (والمعروفة ايضاً باسم «امرأة ستشوان الطيبة») التي انطلق بريخت في كتابتها من سؤال يبدو أنه كان يلح عليه منذ زمن طويل: كيف يمكن المرء ان يكون طيباً دمث الأخلاق رقيقاً، وهو يتعرض في كل يوم ولحظة الى ضغوطات عالم مملوء بالفساد والمفسدين؟
> سؤال جوهري لم يكف الأدباء والفنانون عن طرحه، وربما كان آخرهم المخرج السينمائي الدنماركي لارس فون تراير، الذي لم يطرحه فقط، بل قدم ايضاً اجابة ما، شديدة القسوة، عنه في نهاية فيلمه «دوغفيل». ولكن حين كتب بريخت تلك المسرحية، كان السؤال هو الأساس، لا الجواب.
ومن هنا تلك النهاية شبه المفتوحة في مسرحية لعلنا لا نتجاوز الحق، اذ نقول انها واحدة من أعمق المسرحيات الإجتماعية التي كتبها برتولد بريخت في مساره الإبداعي الذي كان من أقوى ما عرفه القرن العشرون في مجال المسرح على الأقل.
> تتمحور حكاية المسرحية – ونبدأ بها لأن هذه الحكاية تبدو لنا العنصر الأهم في العمل ككل – من حول ثلاثة «آلهة» – على الطريقة الصينية القديمة – يزورون كوكب الأرض بحثاً عن «انسان طيب» بين سكانه. في الأصل كان ثمة رهان بينهم من حول وجود أو عدم وجود مثل هذا الانسان. واستقر بهم الرأي على انه، اذا كان موجوداً، فإن وجوده نادر بالتأكيد. من هنا، لا بأس ان يكون هناك مسعى للعثور عليه. وعلى هذا النحو يهبط «الآلهة» من عليائهم ويبدأون على الأرض جولة تقودهم الى مدينة ستشوان الصينية. وهناك يقابلهم سقاء فقير، يعتاش من حمل المياه… وهذا السقاء البسيط، على رغم فقرة، ومن دون ان يعرف هويتهم حقاً في البداية، يبادر من فوره الى العثور لهم على مأوى… بيد ان كل سكان المدينة يردونه على أعقابه رافضين ايواء أي غريب على رغم غناهم. وفي النهاية وبعد محاولات تكشف نفسيات السكان، ترضى باستقبال وايواء الغرباء العاهرة شن – تي، التي تقابلهم بقلب طيّب… وهم كمكافأة لها، يمنحونها في النهاية مبلغاً من المال يمكنها من شراء دكان للتبغ تعتاش به، بدلاً من مواصلة مهنتها المذلة. لكنها ما إن تفتح الدكان حتى تجد نفسها محاصرة بكل انواع الطفيليين والسائلين والطامعين. ما يجعلها، لحماية نفسها خصوصاً ممن يعرفون ماضيها، تضع على وجهها قناع رجل ذكر، ما يمكنها من ان تزعم انها ابن عمها شوي – تا. وعلى هذا النحو تصبح الفتاة بديلة لنفسها. وتحرص على ان يبدو «ابن العم» قاسياً جلفاً لا يرحم. غير أنك اذ تكون طيباً مرة، ستظل طيباً الى الأبد… ولأنك طيب، ستقابل كل تصرفاتك بالغدر والنكران. وشن – تي، تجد نفسها في وضعيتها الجديدة، قادرة حقاً على اختبار هذا الواقع. فهي ذات يوم تنقذ من الانتحار طياراً عاطلا من العمل يدعى يانغ – سون. أما هذا، فإنه – اذ يكتشف ان شن – تي وقعت في غرامه، يزعم مبادلتها الغرام، لمأرب في نفسه: من طريقها، وبفضل «ثروتها» الجديدة، يمكنه ان يدفع رشوة لمن سيعيده الى عمله السابق. وهكذا، من دون ان تدرك شن – تي، نياته تجاهها، تجد نفسها منساقة وراءه فيما يتمكن هو من الحصول على ما يريد منها… بل إن ذلك ينتهي به الى تحطيمها، حيث ان شن – تي تحمل منه… واذ تكتشف هذا الحمل وترزق بولد، تتحول الى نمرة حقيقية وتقسم، انها من الآن وصاعداً ستدمر من يحاول ان يسيء الى صغيرها. وفي الوقت نفسه يكون ابن العم شوي – تا، أي شن – تي تحت قناع، قد تمكن من انقاذ الثروة بفضل انشاء مصنع للتبغ، تتحقق أرباحه من طريق استغلال العمال بأبشع ما يكون… وازاء هذا الواقع الجديد، وفيما شوي – تا، يدير المصنع بيد من حديد، تختفي شن – تن. وهذا الاختفاء يثير الشكوك، وخصوصاً شكوك حمال الماء الفقير الذي يبقى على اتصال بالآلهة الثلاثة. وهكذا يظن ان شن – تي قد قتلت، وتتحول الظنون الى «ابن العم» الذي يمثل امام القضاء بتهمة قتل شن – تي. أما قضاة المحكمة الثلاثة، فهم الآلهة المرسلون انفسهم. من هنا سيكونون هم أقل المستغربين حيث تنزع شن – تي، خلال المحاكمة، القناع عن وجهها معلنة عن حقيقة هويتها. مؤكدة ان أحداً لم يقتلها: كل ما في الامر انها نحّت الجانب الطيب من شخصيتها جانباً، لكي تأخذ حقها بيديها. وطبعاً يدهش الحاضرون اذ يكتشفون هذا. أما «القضاة» فإنهم، اذ أدركوا ان شن – تي، على رغم انها «أطيب انسان في العالم»، قادرة على تدبير أمورها بنفسها، ان وعتها وأرادت ذلك، يتركون المحكمة عائدين الى ملكوت هدوئهم وراحة بالهم.
من الواضح هنا ان ما يتساءل برتولد بريخت حوله في هذه المسرحية، يدور في اطار الدهشة الغاضبة امام «عالم على المرء ان يدفع فيه ثمناً باهظاً إن شاء ان يكون طيباً وفاعل خير». فهل علينا اذاً، لكي نبقى على قيد الحياة ان نبقى قساة لا نرحم، تحت قناع او من دونه، وان نمضي وقتنا ونحن نستغل الآخرين، بمن فيهم أقرب الاقرباء الينا، من دون هوادة؟
> من الواضح هنا، في شكل أو في آخر، ان بريخت انما يسعى ايضاً الى معارضة «ابله» دوستويفسكي المؤكد ان «الانسان الطيب لا بد انه الانسان الأبله»… ذلك ان شن – تي هنا اذ تدرك ان طيبتها لا تجدي نفعاً في هذا العالم، تنتفض متحولة الى كائن أقل طيبة. ما يعني انها، قبل ان تخون الآخرين، انما تخون ذاتها… وما تمارسه عبر هذه الخيانة، انما هو التحوّل من امرأة متأملة الى كائن «عملي» يقدم على الفعل الذي ما كان ليريد ابداً ان يقدم عليه. وعمليتها تقوم، كما رأينا، في استغلال الآخرين، تحت قناع… من دون ان يكون هؤلاء الآخرون، هم الذين يستغلونها نفسهم.
> طبعاً، لا يدعو بريخت الى هذا على انه حل… لكنه يقول لنا بكل بساطة ان العالم يمضي هكذا. ويرى الناقد الأميركي جون غانستر، ان ما يمكن استخلاصه من هذه المسرحية هو ان بريخت خفف فيها من صرامة تحليلاته الماركسية لمصلحة نوع من البروتستانتية الكالفينية. وهي عناصر من المؤكد انها تضفي نوعاً من الزهد الكئيب على اخلاق الشخصيات وبالتالي على جد المسرحية ككل.
تب برتولد بريخت (1908-1956)، هذه المسرحية بين العامين 1938 و1940، أي في الفترة نفسها التي اندلعت فيها الحرب العالمية الثانية… وأراد منها ان تكون من ناحية، أمثولة أخلاقية، ومن ناحية ثانية عملاً سياسياً فيه دعوة مبطنة الى الفعل والتحرك، بدلاً من الجمود عند فكرة «من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر»… وتتوسط هذه المسرحية، بدلالاتها، كما بتاريخ كتابتها، عمل برتولد بريخت، الذي تواصل، مسرحاً وشعراً ونقداً ونشاطاً سياسياً، بين ألمانيا وشمال أوروبا وأميركا، طوال ثلث قرن، شهد بعض اعماله المعتبرة من اهم كتب للمسرح في القرن العشرين، مثل «دائرة الطباشير القوقازية» و «أوبرا القروش الثلاثة» و «أيام الكومونة» و «رؤى سيمون ماشار» و «الام كوراج»… وغيرها من اعمال صنعت بريخت ومكانته المهمة.
الصورةمن عرض للمسرحية في برلين الغربية عام1967