يوسف خليل السباعي
الفصل الثاني
عكاز جون
كان لابد أن أعود إلى الفندق، وأنا أفكر في جون، فهو الوحيد الذي سيعرفني على نصب أبي البقاء الرندي في أرض الأحلام. وكان لدي نزوع لرؤية هذا النصب، فهو يمثل شاعرا أندلسيا وعربيا كثيرا ما رددنا مقاطع من أبياته الشهيرة، حيث كان هذا الشاعر شاهدا على عصره، وأيضا على سقوط الأندلس.
ودعت بيرخينيا بعناق حار، وشكرتها كثيرا على مساعدتها لي في التعرف على آثار لم يسبق لي أن عرفتها من قبل. وحين ودعتها كانت الشمس الحمراء تميل إلى الأفول. لم أكن أعطي أهمية للوقت، وكنت أستمع لشرح بيرخينيا بإمعان، وهو الشيء الذي لم أتعود عليه قط. ولا أعرف ما الذي غيرني، وقلت لنفسي متسائلا: ” هل أريج عطر بيرخينيا دوخني، وجعلني أرهف السمع لما تقوله، أم هو صوتها الساحر، وجمالها الأخاذ الذي يتيه بالمرء في وديان بعيدة الغور؟”.
أتذكر أنني عندما كنت طالبا في كلية الآداب ب ” تطوان”، لم أكن أهتم خلال السنوات الخمس الدراسية بمحاضرات الأساتذة، أقول خمس سنوات، لأنني رسبت في السنة الأولى، ليس لكسل ما، وإنما لأنني كنت أحس بالسأم بسرعة، وكثيرا ما أفضل الخروج من قاعة الدرس لأستنشق الهواء. كنت دائما ومنذ صغري أبحث عن الكتب التي تحمل الجديد، والمدهش، لأتعلم منها، وأبحث عن اللذة فيها، التي لم تكن تلك المحاضرات تمنحني إياها.
صوت بيرخينيا لا يزال يلاحقني، يدور في دماغي ويرج أوتار قلبي. عرفت منها قبل أن أودعها أن لها ارتباطات مع رفاقها، ولم أحب أن أتدخل في خصوصياتها، كما أنها لم تسألني عن عملي الصحفي، ومتى ابتدأت هذا العمل، ولو كانت سألتني لأجبتها، لأنني لن أخفي عنها شيئا يلذ لي أن أحكي عنه. لذلك تركتها على سجيتها، وحريتها طليقة كعصفورة.
وأدركت بعد ذلك بيومين أن بيرخينيا كانت تجلس مع رفاقها بإحدى المقاهي لمناقشة وضع بعض الصحفيين المطرودين من عملهم، وأن القضية لم تكن سهلة.
كان خافيير قد أخبرني أن الصحفي المطرود من عمله برغم كونه يتقاضى راتبا شهريا لمدة سنتين، إلا أن انعدام العمل يجعل الأمر أكثر تعقيدا. خافيير هو الذي كشف لي المقهى التي تجلس فيها بيرخينيا، وقال لي أيضا، وهو يبتسم بغرابة: ” إن بعض المؤسسات الصحفية لم تعد قادرة على توظيف سوى بعض الصحفيين الشباب، الذين يسهل توجيههم حسب رغبة رؤساء التحرير، أما الصحفيين الكبار، فلم يعد لهم وجود، إلا القلة القليلة”. استغربت لذلك، وسألت خافيير: ” ماذا تعني بالكبار؟”، فقال ضاحكا هذه المرة: ” ياصديقي، إن الأمر لا يتعلق هاهنا سوى بالكفاءة”.
فهمت قصده للتو، وفكرت في جون.
كان جون أحد الصحفيين الكبار. كان يتمتع بقلب كبير، ويحب المغرب والمغاربة، وهذا شيء لا ينكره أحد.
ما إن دخلت إلى الفندق حتى وجدته جالسا على الأريكة البيضاء، يقرأ كتابا إسبانيا، لم أسأله عن عنوانه، ولكنني تعمدت أن أساله عن سر ارتباطه بعكازه. فقال: “هذا العكاز هو عوني”.
رمقني بنظره خجلة، وقال: ” أعرف طلبك”. قلت له: ” أخبرتك به بيرخينيا”، فقال: ” نعم”، ولم ينبس بالكلام، ثم نهض، ضرب لي موعدا في الغد بعد مداخلات المؤتمر، وراح صوب المصعد، يحمل في يده اليسرى كتابه الإسباني، ويتكأ على عكازه بيده اليمنى.
خرجت إلى باب الفندق. كانت الحركة خفيفة بالشارع، لا وجود لأي صخب، بل هدوء يجعل المرء يجيد التأمل في سماء روندا المتشحة بالنجوم. وأنا أراقب النجوم في السماء، رن هاتفي المحمول.
كانت المتصلة أسماء. قلت في سري: ” ما المرام من اتصال أسماء بي الآن”، وكان لابد أن أرد عليها، ومن خلال الكلام الذي دار بيننا عرفت أنها لا تريد سوى الاطمئنان علي، والحق أن أسماء ظلت تتصل بي كل مرة، لا تبغي سوى سماع صوتي الذي اشتاقت إليه، ولم أكن راغبا في أن تكدر علي صفاء حياتي في روندا، والسعادة التي شعرت بها منذ أن وطأت قدمي أرض الأحلام. ولا أنكر أن وجودي قرب بيرخينيا، برغم ابتعادها عني الآن كان يشعرني بسعادة أكبر، فلم أعد أرد على مكالماتها المتواترة.
كانت أسماء جميلة، شعرها أشقر، وجهها مدور، عيناها بنيتان لامعتان، ونهداها عامرين بضين. كانت نجمة… الكل يرغب فيها، والكل يريد أن يضاجعها، لكنها كانت لا تختار إلا من يهواه قلبها… بيد أنها كانت تحب النقود أكثر مما تحب الهوى. وأنا لم أحبها. أحببت فقط مضاجعتها، وبالفعل تحقق لي ذلك ذات ليلة. بعدها كانت كل مرة نلتقي فيها ترغب في أن أضاجعها، فأرفض، ولم أحب أبدا أن أكرر نزوة تلك الليلة، ولم أكن أرغب بعد ذلك أن أخالطها. كنت لا أفكر سوى في بيرخينيا التي لحست عقلي، وتربعت على عرش قلبي.
عندما دخلت إلى غرفتي، لم أشعر بالنوم، أخذت بيرة ” ماهو” من الثلاجة الصغيرة، رشفت منها رشفة بطيئة، ورحت إلى النافذة. كنت تركتها مفتوحة. كان الشارع فارغا، والهدوء سيد المكان، وعلى مسافة قصيرة، تبدى لي الثور الفحل، كما لو أنه يريد أن ينطلق من نصبه، هائجا، وثائرا… لم أصدق ما أبصرت، وأقفلت النافذة، كان برد الليلة خفيفا. حاولت النوم، لكن النوم كان يهرب من جفوني. وأحسست بأن قوة ذلك الثور الهائج والثائر انحشرت في جسدي.
وأدركت في الصباح أن فكرة اكتشاف حلبة مصارعة الثيران هي التي جعلتني أتوهم كل هذه الأشياء التي حدثت لي بالليل. بيد أن سؤالا ظل يطن في دماغي كذبابة مزعجة:” هل كل ما رأيته الليلة مجرد وهم؟”.
كان لابد أن يجمعنا الفطور أنا وجون في مقهى ومطعم الفندق. كان فطورا شهيا، قهوة بالحليب، زبدة، مربى، أصناف من المورطديلا، والجبن، والبيض المسلوق، والفواكه، والمشروبات… كان الكل يأكل، وفي مكان بالمقهى كانت تجلس بيرخينيا برفقة إلينا وكارمن، وبجانبهما، كارلوس وإبراهيم، وفي الجهة المقابلة لهما يجلس سعد وجلال ونجيب الذي كان يأكل بشراهة. ابتسمت لي بيرخينيا ابتسامة حلوة. كان شعرها الأشقر باهرا، وعيناها حانيتين، ولم تكن ترتدي سوى قميص أسود شفاف، يبرز نهديها العامرين اللذيذين. ما إن رأيتهما حتى أحسست بحرارة تنبعث في جسدي، وشرعت في الأكل دون توقف.
عندما نظرت إلى جون، ابتسم، وسألني: ” هل تحبها يا يحيى؟” قلت له: “لا أعرف”، فقال لي: ” لابد أن تعرف… اسأل قلبك”.
وما إن انتهينا من وجبة الفطور حتى وقف جون. قال لي وهو يحرك عكازه، رفيقه الحميم: ” لا تنس زيارتنا لنصب أبي البقاء الرندي… بعدها أحضر لك مفاجأة بعد انتهاء مداخلات المؤتمر”.
كنت متلهفا لزيارة نصب أبي البقاء الرندي، ومن حسن الحظ أن مداخلات المؤتمر لم تكن ثقيلة. مرت ساعتان بسرعة البرق، لكن كان لابد أن نذهب للغذاء. وكان تفكيري منشغلا بالمفاجأة أيضا. أية مفاجأة…
قال لي جون ونحن نتمشى قاصدين نصب أبي البقاء الرندي: ” لابد أن نزور أولا قصر مون دراغون”. عندما وصلنا إلى القصر، حرك عكازه، وقال: ” شيد هذا القصر في القرن الثالث عشر الميلادي”، ثم سكت عن الكلام، قلت في سري: ربما أنه أحس بإعياء، وكنت علمت من كارلوس أن جون مريض، ولم أساله عن نوع المرض. غير أنه كان يبدي حيوية شاب في العشرين من عمره كما لوكان يتغلب على مرضه، يحاول أن يهزمه بالمشي، بالحركة، وبالقراءة والكتابة. لم أحب أن أظهر لجون أي مساعدة. تركته على حريته، وبغتة استعاد قوته، وقال: ” يعتقد علماء الآثار أنه كان مقرا للملك الأندلسي أبو مالك عندما كانت روندا عاصمة لمملكة كبيرة في الأندلس”.
كان القصر يحتوي على متحف المدينة الذي يضم عددا كبيرا من الآثار التي تعود إلى العصر الحجري وغيرها.
بعد مغادرتنا للقصر كان لابد لنا من أن نقطع مسافة، لم أشعر بها بتاتا، وحتى جون، الذي كان يطير على جناح عكازه منتصرا على مرضه، كان متلهفا هو الآخر للقاء أبي البقاء الرندي كأن صوت أبي البقاء ينادينا من قريب.
هاهو نصب أبي البقاء الرندي، قال جون، وهو يتنفس بصعوبة، ثم لم يقدر على الوقوف فجلس على مقعد حجري، وأشار بعكازه إلى نصب أبي البقاء الرندي، ثم أعاده إلى جانب المقعد.
أحسست وأنا أقف أمام نصب أبي البقاء بأنني أعود إلى عصر الطوائف، ففي هذا العصر افتقدت الأندلس الشخصية القوية، والسبب التنازع على العرش. كان الأمراء في الحواضر الأندلسية يستقلون عن السلطة المركزية، فبدأ القسم الأخير من تاريخ المسلمين في الأندلس. يقول أحد المؤرخين: ” استعان بعض ملوك الطوائف بالإسبان والبرتغاليين ضد بعضهم، وفي النهاية سقطت غرناطة آخر معقل للعرب والمسلمين، وأصبح وجودهم في إسبانيا مجرد ذكرى من ذكريات التاريخ”.
أحسست أيضا وأنا واقف أمام نصب أبي البقاء بالأسى الكبير المرسوم على وجهه، وقلت في سري: ” لابد أن يكون ذلك الحزن من تأثير النهاية المأساوية للعرب والمسلمين في الأندلس، فهو كان شاهدا على سقوط عدد من المدن الأندلسية”.
اقتربت من نصبه. كان عبارة عن لوحة موضوعة في إطار حجري وسط جدار برتقالي خفيف اللون به شقوق وثقوب، كما لولم تمتد أي يد لترميمه، وكان الجانب الأيمن لذلك الإطار الحجري مكسورا وبه بعض الثقوب. ولما نظرت إلى عيني أبي البقاء الرندي رأيت بهما أسى غريبا. كان حاجباه مقوسان، كما لو أنهما يحميانه من غدر ما . لحيته لم تكن كثيفة، كانت تجعل وجهه ظاهرا، كانت مثل خط مائل، أو قوس، أما أنفه، فكان دقيقا، وفوق شفته العليا شارب مقوس، وعنقه مديد، ذكرني ببورتريهات موديغلياني، لكن ما أثارني في هذا النصب، وحمسني للاقتراب منه أكثر، هو زيه العربي الأندلسي القديم، الذي يزيده الأزرق والأسود والبني والأصفر الذي بدأ يندثر تدريجيا، رونقا، وفتنة. كانت عمامته الزرقاء الفخمة تترك جزءا من شعره الخفي منسدلا على رقبته، وجبهته، بيد أن الأسى ظل جاثما على وجهه.
أحسست للمرة الألف بأن أبي البقاء الرندي يريد أن يخرج من نصبه، ليتكلم، كما لوأن روحه عادت إلى جسده، ربما خيل إلي ذلك، وتذكرت للتو نصب الثور الهائج، والثائر، الذي كان يريد أن يتحرر، ليلا، من نصبه. وقلت في سري متسائلا: ” هل هذا هو أبو البقاء فعلا، أم أن يدا مبدعة تخيلته على هذا الشكل؟”، ولم أصل إلى أي جواب. ولما سألت جون في الأمر، لم يقل شيئا. التف علي الاستبهام، ولم أعد قادرا على تكرار هذا السؤال.
الأهم بالنسبة إلي أنني لمست بيدي نصب أبي البقاء الرندي، الذي لم يسرني أن أراه على تلك الحالة. لابد أن يكون ثمة إهمال ما. من المسؤول عنه. لست أدري. لكن كلنا مسؤولون عن أخطاء ارتكبها آخرون، ولم يكن لنا يد فيها.
عدت إلى جون. كان يلاعب عكازه. كنت أعرف أن جون يعاني من مرض ما، إلا أنه كان يخفيه عن الكل. لكن كارلوس كان يعرف… وأنا أعرف الآن.
مات جون. الرجل الطيب. وعندما أخبرني جلال بذلك، وأنا في منزلي ب”تطوان”، تذكرت ما فعله معي جون في روندا، وتأثرت. سيكرم جون في تطوان، ولن أنساه أبدا.
غير أن هذا الرجل برغم الأسى الذي يحمله، كان صادقا. ولم تكن المفاجأة التي حضرها لي سوى تحقيقه رغبتي في اكتشاف حلبة مصارعة الثيران، التي لم أجرؤ أبدا على الدخول إليها بمفردي. وكنت أعتقد أنني سأدخل إلى الحلبة، وأكتشفها كأي شيء عادي، لكن شيئا آخر كان أكبر من ذلك. لقد عرفني جون على مكتبة ضخمة هناك، تخفي أسرارا، وكل ما يعرف عن روندا وتاريخها موجود هناك. كانت للمكتبة طبقات، ومزينة بلوحات كبرى لأمراء ونبلاء إسبان، ولم تكن مضيئة، كانت بمثابة متاهة. لم يسمح أبدا بالتصوير هناك، ولم يسمح أيضا باستعمال الهواتف المحمولة. وكانت بيرخينيا روت لي ما جرى من تقريع لنجيب حين حاول استخدام عدسته هناك من طرف صاحبة المكتبة. وقلت في سري: ” يا لها من غباوة”.
وعرفت فيما بعد أن كل الرفاق زاروا المكتبة لحظة كنت أنا وجون في زيارة لنصب أبي البقاء الرندي، كما زاروا الحلبة…
في الليل، عندما عدت أنا وجون إلى الفندق، كان سعد في انتظاري في الصالون كأنه يريد أن يقول لي شيئا، لم يعرف أنني كنت مع جون، فلم أكن أرغب في الكشف عن كل زياراتي لآثار روندا، كان ذلك شيء يخصني أكثر من أي أحد آخر. وما إن بدأ يحكي عن مشاهدته لحلبة مصارعة الثيران حتى أوقفته، وقلت له: ” أفضل أن أسرد أنا ما شاهدته”. فلم ينبس بالكلام.
قلت لسعد: ” ما عرفته من جون عن الحلبة هي أنها تتميز بأسلوبها الخاص بالمصارعة. يقوم المصارع بمصارعة الثيران على الأقدام وليس ممتطيا لصهوة الحصان. الحلبة تتسع ل5000 شخص فقط، بيد أن الحلبة ذات الأرضية الرملية هي الأكبر في العالم”. لاحظت، وأنا أسرد ذلك على سعد، أن الحلبة مبنية من قطع الحجر المحلية مغلفة بالجص ومبيضة بماء الكلس. كنت أرغب في الكلام أكثر عن الحلبة، لكن بيرخينيا أتت ومزقت كلامي، وسألتني بابتسامة حلوة: ” كيف قضيت اليوم يا يحيى؟”، قلت لها” كان يوما ممتعا، اكتشفت فيه أشياء، لم أكن أعرفها في أرض الأحلام، وإن روندا، فعلا، هي أرض الأحلام”.
ودعتني بيرخينيا بذات الابتسامة، وقالت: “سأذهب للنوم”، قلت: ” ليلة سعيدة”، وتركت سعد وحيدا، ثم رافقتها إلى غرفتها، بعد الدخول إلى المصعد، ولم أقدر على التحكم في مشاعري، لأبوح لها بحبي. لم يكن هناك أحد ليسمعني، فلم يبق لي في روندا غير يومين، لكن مشاعري الملتهبة كانت أقوى مني. مسكتني من يدي اليمنى، فتحت باب الغرفة، دخلنا، قبلتني بحرارة، فأحسست بشيئي ينتصب، وغرقنا في يم من القبلات، ثم خلعنا للتو ملابسنا، وكان السرير مرامنا، ومارسنا الحب عناقا وتقبيلا وضما حتى الصباح.