“أبله دوستويفسكي بين كورساوا، زولاوسكي وروبير بريسون”

حسن سلامة

عند تحليل شخص الأمير ميشكين وهو أبله دوستوفسكي فيمكن القول بأنه يمر بثلاث علل أساسية بسببها اعتبره الأخرون أبلها..

الطيبة، الاغتراب، الحب..

إن نقطة انطلاق كل مخرج قدم رواية الأبله إلى السينما تختلف عن الآخر فمثلاً كورساوا ينطلق من نفس البداية التي ينطلق منها دوستويفسكي ولا يبرح ذاك الخط حتى النهاية وإني أرى في تجربة كوروساوا تحفظاً شديداً، بليداً لأنه لم يقدم رؤياه الخاصة ولم يجدد، أما زولاوسكي فيرى أن المعضلة الأكبر لدى الأبله هي حبه الأعمى لناستاسيا فبلاهته لا تقوده للهلاك أما حبه فهو من سَبب ذلك فيجعل من حبه حباً مجنوناً يصل إلى حد البلاهة وليس بلاهةٍ تبعها حب وبالتالي فنقطة البدء عنده هي بداية قصة حب الأمير لناستاسيا… أما بريسون فيبتعد في سرده عن شخص الأبله تماماً ولكنه أيضاً لا يبتعد عن جوهره ف بريسون يشعر بالاغتراب الموحش الذي لا يبارح الأبله ولذا فإنه لا يرى أن أحداً يستطيع تجسيد ذاك الاغتراب كالفتاة القروية ماري التي يحكي حكايتها أبله دوستويفسكي في سطور قليلة في الرواية فتكون هي نقطة البدء والمحور في تجربة بريسون..

ترتكز تجربة بريسون على محورين أساسيين وهما بالزار وماري وبالرجوع إلى العمل الأدبي ف لا نجد بالزار أو ماري محاور أساسية أو مؤثرة ولو قليل حتى في رواية دوستويفسكي وفي ذلك تتجلى عبقرية بريسون في محاكاته وتطويعه للرواية..

في رواية الأبله بينما يقص الأمير حكايته على قريبته وبناتها يحكي عن تأثره الشديد بنهقة حمارٍ في سوق قد آثرت في نفسه اعجاباً بالحمير وعاطفةً نحوهم وأنه أصبح لديه عاطفة حقيقية وصادقة نحوهم.. ولم يفسر منبع ذلك حينها ولكن الأكيد أن تأثر الأمير الأبله بنهقة حمار أشعرته أن هنالك من يعاني مثله، من هو أجنبي مثله في بلدٍ أيقن الأمير أنه غريباً عنها ولا تثير في نفسه تلك البلدة إلا الحزن، إن شعور الأمير بالغربة في سويسرا هو نفسه شعور الحمار في ذاك السوق وفي ذاك اليوم.. فالحمار دائماً ما يعاني من شعور الإغتراب في ذاك العالم وأما عن إعجاب الأمير به فنبع من حبه لكيفية تعبير الحمار، تلك النهقه التي كانت بمثابة تحرير الغضب الكامن بداخله والتي يكن لها الأمير إعجاباً شديداً نظراً إلا أنه لم يتحل بالجرأة الكافية التي تجلت في صيحة ذاك الحمار، إن إعجاب الأمير نبع من رغبته المُلحة والشديدة في التعبير عن ذاته ولم يجد ذاك في نفسه ولا ف غيره من البشر بل وجده ف ذاك الحيوان ذا الروح المعذبة،تلك الروح التي امتلكت الحس الذي يملي على الأمير شعوراً دائماً بالوحده والاغتراب، يكمل الأمير حديثه فيقول أنه ومن بعد ذلك لم يشعر بالاغتراب وربما نبع ذاك من يقينه أن هنالك من يشاطره حزنه وغربته.. إن نقطة انطلاق بريسون تركزت على حكاية الحمار لأنها خير دليل على الشعور العميق للأبله بغربته ووحدته ورغبته في مشاطرة عذابه وتلك الرؤيا هي الرؤيا الأولى الخاصة ببريسون والتي ينأى بها تماماً عن أبله دوستويفسكي بجانب إن اسم بالزار هو اسم نبي من الأنبياء الذين بشروا بعيسى نبياً حين مولده وهو بذلك يأتي حاملاً لرسالة المسيح، النقطة الثانية التي يتفرد بها بريسون ويحتفظ بها بجوهر أبله دوستويفسكي تجلت في ماري المسكينه التي يحتقرها أهل القرية جميعهم وهي التي أشفق عليها الأبله هي الأبله نفسه، ربما لأن بريسون قد رأى أن هنالك أبلها منبوذاً، معذباً، جديراً بالشفقة أكثر من أبله دوستويفسكي نفسه.. وبذلك فيتشاطر ماري وبالزار تلك المعاناة مع بعضهما البعض أبلهين في ذاك العالم وهما بدورهما حامليّن لرسالة النبي وفي ذلك تتجلى معاناتهما الكبرى كما عانى المسيح..

على لسان أحد القساوسة في العمل الأدبي يقول

” ها هي ذي أمامكم لا تجرؤ أن ترفع عينيها لان الله قد دمغها الى الابد ها هي ذا حافية القدمين ممزقة الأسمال، عبرة لأولئك الذين يفقدون الفضيلة”

وربما تصف تلك السطور معاناة ماري وكيف يراها جميع من حولها وما تتعرض له من ظلم بيّن..

أما زولاوسكي فيركز على حب الأمير الأبله لناستاسيا فيليبوفنا،لكن نقطة البدء عنده تختلف عن الرواية ف نقطة البدء عند زولاوسكي تمثلت في روجوين وعصبته عند احتلالهم الحفلة.. إن روجوين يريد أن يحظى بناستاسيا مقابل المال فيهرع إلى أحد حفلات الأميرة مع بعض أتباعه كما ذكر في الربع الأول من الرواية وإن ذلك ليس بجوهر الرواية أو نقطة بدء ولكن زولاوسكي يجعل من الأبله واحداً من أتباع روجوين ويبدأ حكايته باللحظة التي يقابل فيها الأمير الأبله ناستاسيا تلك اللحظة التي يشعر فيها الأمير أن ناستاسيا هي محور الكون، تأسره بجمالها وببراءة عينيها وهو كالأبله أمامها متسمراً وشارداً، حالماً، مدركاً جوهرها الذي لا يدركه الآخرون، أو كما يخيل إليه، من ذاك المشهد ينبع مسمى تجربة زولاوسكي ” حب مجنون ” فهي بالفعل تركز على معضلة الحب الأعمى الذي يكنه الأبله لناستاسيا ولكن زولاوسكي وبرغم تمحور تجربته حول ذاك الحب إلا أنه لم يبتعد عن جوهر الأبله أيضاً.. إن أبله زولاوسكي يصل به حد تقديس محبوبته إلى تقبيل قدميها كما كانت تحلم، كان الشعور بالذنب ملازماً لانستاسيا متعجبةً من موقف الأمير فبرغم تأكيدها على أنها غير شريفة إلا أنه يصفها بالشرف والبراءة والطهارة ولكنها لم تتتقبل فكرة أن تكون عبءاً على هذا الأبله التعس وهي مقتنعة دائماً بأنها أفسد مخلوقة على وجه الأرض لذلك فهي لا تستحق الأمير الذي يرمز إلى الطهارة والنقاء وكلما حاولت ناستاسيا مستمرة في إثبات فسادها وشرها كلما زادها الأمير حباً نظراً لأنه يرى أن ناستاسيا بذلك هي أكثر البشر براءة وصدقاً لأنها دائماً ترى نفسها المخطئة الوحيدة ولا تلوم غير نفسها وطرأ ذلك في الفيلم كما كان في الرواية ولكن زولاوسكي فيشذ عن رؤيا دوستويفسكي في أمرين وذلك بجانب اختلاف نقطة بدءه وبطله الذي هو بعيد كل البعد عن كونه أميراً أصيلاً ك أمير دوستويفسكي، إن الأمرين اللذان نئا بهما زولاوسكي بعيداً عن فيدور إحداهما رؤيا حالمة والأخرى واقعية..

فالرؤيا الحالمة لدى زولاوسكي تجلت في رحلة هي أشبه بحلم، رحلة يصبح فيها الأمير وناستاسيا هم محور الكون وكأنها الوحيدين في العالم فيمتلئان ببعضهما عطفاً،حباً ونشوة وذلك لم يرد في رواية دوستويفسكي وربما نبع ذلك من أن زولاوسكي قد رأى أن في ذلك شيئاً من الظلم للأبله الذي يحلم دائماً بأميرته فيعطيه في تجربته ما استحقه بناءاً على اصراره وهو أن يتشبع بعض التشبع من محبوبته، أما الرؤيا الواقعية لشخص الأبله فتكون قرب النهاية..

إن أبله دوستويفسكي وبرغم كونه شديد البلاهة والسذاجة في نظر الأخرين لا يتغير أبداً وحتى بعد صدمته الأخيرة فهو لا ينقلب بل يكتفي بالصمت، الصمت الدفين الذي لا يملكه سوى العاجز ويبدو ذلك مُبرراً بالنظر إلى نهج دوستويفسكي نفسه وتراكيب شخصياته فشخصيات دوستويفسكي في العموم يكون تغيرها أو نموها سيكولوجياً أكثر منه خارجي ولذلك فردود أفعالها الخارجية تكاد تكون مُنعدمة ولكن على صعيد آخر فهى من الداخل تتعذب أشد العذاب، لكن الصمت عند زولاوسكي حلاً لا يرضى به وبدوره يجعل من الأبله نتيجة أفعال من حوله وشرورهم يتحول إلى ما يشبه الذئب ولا يكون ذاك تحولاً كاملاً بل رمزياً يتجلى في عينيه التي وعند النظر إليها للوهلة الأولى تبدو كعيني وحش كاسر، تخلو من البراءة، يلمؤها الندم والحقد والغضب العارم وينتهي به الأمر إلى تدمير كل ما حوله بلا رحمة..

وأما عن النهاية ففي رأيي أنها تفوق جمالاً نهاية أبله دوستويفسكي، فالنهاية التي طرحها فيدور تميل إلى التراجيديا أما نهاية زولاوسكي فهي نهاية حالمة ملأتها الحميمية والطمأنينة..

ففيها يتقدم الأمير نحو قدمي محبوبته الآثمة زاحفاً على أربع مُقبّلاً لها وكأنه مجرمُ قد وصلت آثامه السماء يرجو المغفرة من ربه وينتهيان إلى مصيرٍ واحد لتنتهي تلك الرحلة نهاية شاعرية..

أما بالنسبة لكورساوا فإنني لأعيب عليه في محاكاته لأنه لم يقدم رؤياه الخاصة لتلك التجربة بل قدم الرواية كمن ينسخ ويلصق من الأدب إلى السينما فلم يجدد ولم يبدع فطوق الفيلم نوع من الجمود، ذاك الجمود الذي اعترى تلك التجربة لم يكن سببه أن الرواية نفسها يشوبها الجمود والبلادة بل سببه هو كورساوا نفسه في عدم فصله بين الأدب والسينما فلم يع أن السينما فن قائم بذاته يجب أن يكون مجرداً وأصيلاً وإن لم يكن كذلك أصبح شبيها بالنثر جامداً ومقيداً بقواعده، ربما يغفر لكورساوا ذاك أن الأبله كانت تجربة في بدء مسيرته الفنية ولأنه أيضاً وعند تطويعه أعمالاً أدبية أخرى فيما بعد كماكبث وهاملت ولير قد طوعها تطويعاً أخاذاً يصل حد الإبداع وذاك نبع من تولد رؤية خاصة لكورساوا أثناء تطويعه لتلك الأعمال الأدبية وذالك لم ينطبق على فيلمه الأبله وهو في الأخير ما يعيبه..

وربما كانت علة كورساوا ترتكز في حبه للأبله وحبه لدوستويفسكي فكان منه أن سار على نفس خطى فيدور وفي ذلك أنانية قادته لسقطة مدوية..

إن الإبداع في تطويع الرواية إلى السينما قد قدمه كل من زولاوسكي وبريسون فهم لم يرتكزوا إلى الأبله نفسه كنقطة بدء بل تعمقوا أكثر في فهم جوهر الرواية نفسها والمحيط الذي أحاط بالأبله فكان إما سبب تكوينه أو تغيره وانهياره ففي الآخير إن ما يجعل من الأبله أبلها هم من حوله، الظروف التي أدت إلى كونه على تلك الشاكلة أما هو في الأساس فليس بأبله وذلك ما افتقد كورساوا أن يراه..

إن الرغبة في تطويع عمل أدبي أو نص مكتوب إلى السينما إن كانت نبعت من مجرد رغبة في نقل العمل الأدبي وتحويله إلى صورة فهى بذلك بعيدة كل البعد عن العملية الإبداعية ولذلك فإن العملية الإبداعية تلزم وجود فنان وليس مخرج، إذن فهنالك فيصل بين المخرج والفنان…

إن المخرج هو الذي يقتصر دوره على العرض، وحتى إن كان متمكناً كل التمكن من أدواته فإن ذلك لا يجعل منه فناناً بل يجعل منه مخرجاً حرفياً، إن الفنان هو الذي يملك تأويلاً خاصاً تجاه النص المكتوب ورؤى مختلفة تجاه العالم فالفنان كالفيلسوف يبدأ بالتشكك ثم الهدم ويعقب ذاك الهدم خلقاً وهذا ما يُولد أصالة الفنان ويجعل منه مبدعاً فالإبداع في الأخير هو وليد التفرد.

Loading...