الرجل والسراج

يوسف أبولوز

عند أهل البادية في بلاد الشام والخليج العربي أخلاقيات نبيلة تكشف عن ثقافة إنسانية رفيعة اكتسبها البدوي بالفطرة عن أجداده وآبائه، ولم يفرّط بها، فقد نقل هذه الأخلاقيات والعادات والقيم إلى أبنائه وأحفاده، كأنها مواثيق وعهود ولكنها غير مكتوبة، فاكتسبت قوّتها الثقافية والنفسية من زمن إلى زمن آخر، فأصبحت كأنها موثّقة ومكتوبة، وليس المهم أن يكون العهد مكتوباً، ويكفي أنه وصيّة من رجل أو امرأة لهما اعتبارية عائلية وثقافية في هذا الفضاء البدوي، الصحراوي، الذي يدرّب الإنسان على الكرم والنبل والشجاعة.

في كل مرة أذهب فيهة إلى الصحراء، اكتشف أن هذا الفضاء الطفولي العفوي لم يُقرأ جيداً.. لم تُقرأ قصصه وحكاياته وأساطيره ومروّياته الشفوية المتناقلة هي الأخرى من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد.

هنا ثقافة بلا مكياج. ناس في قلب طفولاتهم التي لم تتشوّه بأثر ثقافي مدني مصطنع. هنا أيضاً رجال يتماهَوْن تماما مع المكان الذي يمتلكونه بقلوبهم. مكان حرّ ومفتوح وقابل يوميا للتجدّد مع حركة الرمل والرياح والنبات الرملي الصغير الذي يتحدّى الوحدة والجفاف. مكان له ذاكرة، ولا يموت مثل الطلّل الذي تحدّث عنه الشاعر الجاهلي وحوّله إلى حنين عابر. مكان له بطولته وأبطاله.. وله، مرة ثانية، حكاياته..

يروي الكاتب الحاضر، والوزير السابق محمود داودية في مذكرات له غنية بالحياة والمعنى والدلالات الاجتماعية والثقافية والوطنية أن رجلا يدعى “عوض” دعاه مع أصدقاء إلى عشاء في مضارب أهله. يقول داودية إن الرجل قدّم لهم طبقا فوقه خروف مقطّع إلى أربع أو خمس قطع فوق طبقات من خبز “الشراك” المشرّب باللبن والسمن البلدي، ويقول داودية ما إن جلسنا حول الطبق حتى سارع الرجل المضيف إلى إطفاء السراج المعلّق على واسط الخيمة وغاب.

لماذا أطفأ الرجل السراج؟ يقول داودية بلغته السردية الوصفية الحميمة :”عرفت أن المقصود من إطفاء السراج هو أن نأكل بأقصى قدر من حرّيتنا بلا خجل..”.

بنى غابرييل غارسيا ماركيز مجده الروائي من خلال حكايات جدّه وجدّته، وهما بدورهما لم يخترعا تلك الحكايات، بل هي حكايات ناس يشبهون “عوض” رجل السراج، “ادواردو غاليانو” أيضا في “المعانقات” بشكل خاص هو صيّاد حكايات من الحياة، وليس من خزانة كتب.

وكان بورخيس قاص متاهات وحيوات، وليس قاص مخيلة وتأليف، وكان حنا مينة بحارا أو رجل بحر كتب رواياته وهو يعدّ أكياس الحنطة في المرافئ، ولولا الحارة المصرية، القاهرية تحديدا وفيها اشخاص يشبهون “عوض” ايضا لما صاحب “الحرافيش” له مقعدا في نادي نوبل.

إبحث دائما عن الامكنة التي بلا مكياج. ابحث عن تلك الامكنة التي تصحو مبكرا وهي جميلة، تماما مثل المرأة التي تنوي خطبة فتاة لابنها، فتراها وهي تصحو من النوم.

سكّان البادية يصحون مبكراً وإذا عزموا ضيفاً على طعام.. أطفأوا السراج.

Loading...