بقلم: عائشة بلحاج
رفعتُ يدي التي تحمل قلم الرّصاص خلف عنقي. وبحركة لا إرادية وخزتُ جلدي بطرف القلم، ثم نزلَت يدي على كتفي في حركات عمودية، واستراح الجزء العلوي من ظهري، أمام حركات القلم. أدركتُ حينها أنني اكتشفت للتوّ حركة لاإرادية مريحة، ستكون ضمن أنشطتي الأثيرة في عزلة الحجر. وهكذا صرتُ عندما أطرح على نفسي السّؤال نفسه كل يوم: ما العمل؟ مسترجعة لينين الذي طرح هذا السّؤال منذ أكثر من قرن في كتابه، أُتبع السّؤال بوخزة من القلم على ظهر عنقي، لتساعدني على إيجاد جواب سريع.
ولأنّنا جميعًا نبحث عن حلّ لوضع مستجد على الإنسان المعاصر، لذا نحتاج لدليلٍ جديد يحمل العنوان نفسه: “ما العمل؟” ليُرشد هذا الكائن صاحب الكبرياء المبالغ فيها -المُعتمِدة على تطورّه التكنولوجي أساسًا، وقهره لظُروف الزّمان والمكان، لا على قوة خارقة للطبيعة- إلى الطريقة الأسلم لمواجهة هزيمته أمامها. بعد أن ذكّرتهُ مرة أخرى، أنّه لا يمثّل إلا واحدًا من الكائنات التي تدبّ على الأرض، ولن تكون الأيام في جيبه دائمًا.
وكم بدا العالم بحاجة إلى دليلٍ للحالات الطارئة، ليرشده في الوضعيات الجديدة، التي كسرت الأنوف والأنفس. وفي انتظار ذلك، لا أحد يعرف ماذا يفعل وإلى متى؟
المتفائلون منّا يقرؤون، ويشاهدون أفلامًا ومسلسلات، ويتعلّمون الرّسم، واللغات.. فالوضع مؤقت ويُستحسن استغلاله فيما يفيد. بينما ينكبُّ المتشائمون على الدفاتر “أو الحواسيب”، ليكتبوا بإيقاع محكومٍ بالإعدام؛ لعلّهم يُخلّفون شيئًا للمستقبل، ولا يغادرون مثل بقيتنا بأيدٍ فارغة.
يظنّون أنّهم سيخلدون عبر يوميات، أو رواياتٍ مأساوية عن الوباء. وبين الذين يكتبون اليوميات، هناك فئتان: المتفائلون الذين ينشرونها على فيسبوك، ويشاركوننا إياها، لأنّهم ليسوا واثقين من النّتيجة. ففي الغالب يعتبرونها كتابةً تُنفس عن ضغط الحجر، وقد تؤدي إلى شيء جيد، أو لا تفعل. بينما يكنزها المتشائمون، لأنّهم غالبًا يقرؤون ما ينشره الأولون، ويعيدون صياغته، بطريقة احترافية تتمُّ في الظل، وتستفيد من رؤية ما تحت الشمس.
غالبًا ما يتصوّرون نهايةً مأساوية للوضع، ويكتبون عنّا نحن المرتبكين خفية وجهارًا، أشياء سيئة يظنّون أننا لن نقرأها. فيما يكتفي الكُتاب الصّحفيون بتسجيل أحداث الكارثة وآثارها، مثل أطباء يظنون أنّنا لا ننتبه إلى أنّهم خائفون أكثر من الجميع، ويحاولون التظاهر بالشّجاعة والكتابة بلا مشاعر، أو بمشاعر مضغوطة في جُمل باردة تصف الوضع الوبائي بدقة، لكن من دون انفعال. وهذه الكتابة المهنية عن الوباء، تمتصُّ أي رغبة في الكتابة الإبداعية غالبًا، وعن الوباء بشكل خاص.
فماذا نكتب عن هذه التّجربة التاريخية في حياة معظم الناس، الذين عاصر بعضهم حروبًا طاحنة، وشهِدَ أهوالًا كثيرة؟ بالنّسبة لهم هذا الوباء، ليس إلّا هواءً فاسدا وسخيفا، لا يحرك فيهم إلّا الخوف من تداعيات هذا الانتشار الكبير لبقعة الفيروس مثل بقع نفط يتسرّب في المحيط على معيشتهم وما تبقّى من أُسرهم. ومع ذلك، يريد الكثيرون أن يُنتجوا أدبًا لهذا الوباء، في حين يرى آخرون أنّ على الأدباء أن يكتبوا عن يومياتهم، وكيف يعيشون في الحجر ويتخيّلون الخروج منه.
حين حكت ليلى سليماني ببورجوازيتها، عن يومياتها في بيتها المُريح خارج ازدحام المدن الكبيرة، وبعيدًا عن الفيروس وحامليه، انزعج منها كثيرون، لأنّها تعالت على القارئ ولم تكن متعاطفة أو منتمية إلى عالمه. وللأمانة، كثيرون يتخيّلون حياة الكتاب هكذا: منزل بعيد بحديقة، وكتب متراكمة في غرفة شبه مُعتمة جدرانها مغطاة بالكتب، يلجأ إليها الكُتاب لحظة الإلهام العظيمة. باقي الوقت ينقسم بين الحديقة وأنشطة غرفة النوم، والشطرنج، والأكل.
لا أحد يتخيّل الكاتبات وهُنّ يركضن في البيت، بين ترتيبه وإعداد الوجبات وتهدئة الأطفال. والكتّاب وهم مضطرّون للعمل البيتي بمزاجٍ عكر، وبخلفية صوتية تختلط فيها شجارات الجيران مع صراخ أولادهم، وصوت التلفزيون الذي يعمل بحماسٍ مجنون على نقل أخبار الوباء بلا كلل، ويقتل كلّ شاعرية أو رومانتيكية في حياتهم.
وبالحديث عن البيت، يمكن أن نقول إنّه لم يكن للمرأة يومًا مكانًا حميميًا، بل لطالما نظرت إليه كقلعة ذكورية، حتّى وإن لم يراه الرّجال كذلك. فصحيح أنّ الرجل لا يقضي وقتًا مهمًا فيه، لكنه لا يغادره عندما يخرج منه، فأشياؤه وطلباته حاضرة طوال اليوم. إنّه رب البيت، وصاحب العمل، الذي تقوم به المرأة، خاصة ربّة البيت التي لا تغادره للعمل. وتلك الإشاعة عن كون البيت مملكة للمرأة، لم تعد تُغري بالتّرويج، بعد أن تفوّقت المرأة على الرّجال في ارتياد المقاهي، هروبًا من البيت. ومع ذلك، لا ينظر الرّجل للبيت كملجأ لأنّ له فيه شركاء، وسلطته المزعومة غير حقيقية، بالنّسبة له على الأقل؛ صحيح أن المرأة تطبخ له، لكنها تفعل ذلك على هواها، وهوى أولادها ولا أحد منهم يبدو أنه مهتم بما يرغب فيه، داخل هذا البيت.
ما العمل إذن؟ في عزلة ليست حقيقية؟ في بيت يُحاصَر فيه الرّجل والمرأة مع الأولاد، مثلما تُحاصر القطط والكلاب والفئران في قفص واحد. نقٌّ طوال اليوم، واختناق كاملٌ لكل الأطراف. وما ارتفاع حالات العنف المنزلي إلّا تعبير عن هذا الوضع. لأنّها عزلةٌ مغشوشة تفرض التعايش بين مساجين كثر في مكان واحد، تنتعش فيه الخلافات القديمة وتتفقس أخرى جديدة.
مع ذلك هناك من هم في عزلة دائمة حيثما كانوا؛ في كتابه “اختراع العزلة”، تحدث بول أوستر عن أبيه الذي عاش باختياره في فقاعة خارج العالم والمحيط. وحتى عندما كان يعيش مع أسرته، كان منعزلًا عنهم وهو داخل البيت نفسه، حيث يعيشون جميعًا. وعندما غادر الجميع، إلّا هو، ظل غير مهتم بما يعرضهُ عليه العالم من مباهج. وباستثناء روتينه اليومي لم يعرف شيئًا آخر. لدرجة أنّه عندما مات لم ينتبه أحد لغيابه، لأنّه لم يكن حاضرًا يومًا لأحد.
وفي مقال لها عن العزلة، تقول أولجا توكارتشوك (الفائزة بجائزة نوبل للأدب السنة الماضية): “عشتُ فترة، هي الأطول، شاعرة بأنّ حولي قدرًا زائدًا من العالم، ومن السرعة، والصخب. لذلك لا أعاني الآن “صدمة العزلة” بالمرة، ولا يشق عليّ إطلاقا أنني لا أرى الناس”. وتضيف: “ماذا لو تبيَّن أننا لن نعود إلى إيقاع حياتنا الطبيعي؟ وأنّ الفيروس ليس خروجًا عن المعتاد، بل العكس تمامًا، أي أنّ العالم المحموم الذي كان قبل وصول الفيروس، هو الشاذ المُنافي للطبيعي؟”
في سياق العزلة نفسه، هزّت الكاتبة الهندية “أروندهتي روي” القلوب في مقال طويل، ذهبت فيه إلى أننا: “سنعيش فرادى أكثر مما فعلنا يومًا. سنعود إلى ذواتنا، وستصبح اللّقاءات البشرية ممكنة بقدر ضرورتها. أي أنّنا سنُصبح براغماتيين حتى في تعاملنا مع العائلة والمشاعر والصداقة.. كلها أشياء ستصبح غير ضرورية، وتفقد أهميتها في حياتنا”.
هذه احتمالات ممكنة، لكن تاريخ الإنسان المليء بالأوبئة، يقول إنّ هذا لم يحدث قبلًا، فلِم يحدث الآن؟ المُتغيّر الوحيد حاليا هو أن الإنسان يمتلك بدائل إلكترونية وتكنولوجية، وقدرًا من المعرفة والأنانية، ما يجعل هذه الاحتمالات غير قابلة للحدوث، أو يجعلها خيارًا محتملًا بنسبٍ معقولة.