الخُروج من مِعطَف الخوف

عائشة بلحاج

“أودُّ لو أغادر، لكن ما من مكان أذهب إليه. وجودي ذاتُه هو الشّيء الوحيد الذي له حدود مميّزة الآن..” تقول بطلة رواية “الرَّحالة” للبولندية أولغا تشوكارتشوك، التي سبقت بقليل ما نعيشه من حصار منذ أشهر، وقدّمت لنا شخصية مسافرة في المكان، ليس باعتباره بقعةً من الجمال الإنساني أو الطبيعي، بل لكونه مساحة تقع عليها قصصُ آخرين، وتصطفُّ فيها طرقهم، وتتقاطع عليها المسارات الإنسانية في بؤسها وصراعها من أجل القليل.

ما من مكان نهرب إليه من الخوف أو الواقع؛ إنّنا محاصرون حيث تبدأ وتنتهي حيواتنا الصّغيرة، وتتكثّفُ في سعيها الدّؤوب للهروب من العدوى، وتأخير ما بدا في اللّحظة التي انكشف فيها الوباء للإنسان قدرًا محتومًا. بما أنّ التّقديرات الأوّلية أشارت في بداية انتشار كورونا إلى احتمال إصابة 98 في المائة من ساكنة الكوكب بالفيروس، لكنّها تراجعت عن هذه الخلاصة عندما تسارعت العدوى وارتفعت أعداد الوفيات، وأُصيب النّاس بالرّعب، إذ اضطرّت لإقناعهم بإمكانية السّيطرة على الفيروس ومحاصرته. ليدخل معظم ساكنة الأرض إلى بيوتهم منتظرين نهاية الوباء، الذي لم يكن ينوي الرّحيل في وقت قريب.

عاد النّاس للانتشار في الأرض، ما دام الحجر لم يكن مفيدًا. ورغم الكمامات ونصائح التّباعد، فالكابوس مستمر، والناس متعبون لدرجة أنّهم عادوا لحياتهم العادية، رغم ألّا شيء كذلك. لذا شعرتُ بالغرابة وأنا أخطّط للخروج أوّل أيام ما بعد الحجر المنزلي، رغم أن للصّيف رائحة الوعود والأشياء التي تنتظرنا للاستمتاع بها، إلّا أن وجود فيروس بيننا وبينها يحبطنا، إلى جانب كل ما نعيشه من اختناق. فكّرتُ بداية في الاستمتاع بالمشي على كورنيش طنجة لأوّل مرة منذ أكثر من ستّة أشهر. لكن الذّهاب إلى هناك بعد أشهر من الاحتياط، الذي تخلى النّاس عنه بسرعة، مغامرة كبيرة، ففضّلتُ البقاء في البيت، والبحث عن تسلية داخلية وتبني الحجر الاختياري بدل الإجباري.

لم نخرج بعد من هذه الأزمة، والتظاهر بعدم وجودها أمر لا يناسبني، أنا التي لم أُجد عدم القلق، رغم محاولاتي الجاهدة لذلك. أردتُ أن أُكثر من النّصائح وأدسّها في ملابس وحقيبة ابنتي، وهي تغادر البيت مع صديقتها لأوّل مرّة منذ بداية الحجر. لكنّني اكتفيت بتذكيرها بأنّ الأمر لم ينته، ورميتُ بقية النّصائح في جيب خفيّ أخصّصه لما أخصِمُه من نصائح الأم القلقة، وأنا الحريصة على أن أقول لنفسي دائمًا: لا تكوني الأم المهووسة.

يبدو الخروج لغرض غير ضروري مخيفًا، حتى لنا نحن الذين كانت الظروف تُخرجهم من البيت رغمًا عنهم. لأنّنا نمضي إلى شؤوننا بكمامات تخنق أنفاسنا، فيما البقية حولنا لا يكترثون. مثلما حدث حين أخرجني غرض ضروري منذ أيام، وعلّق سائق التّاكسي على كمامتي، مسترسلا في حديث غاضب من مؤامرة كورونا، وهؤلاء الذين يريدون خنقنا.. ولم يتوقّف عن نفخ رأسي إلا دقائق فقط قبل أن أصل وجهتي، بعد إصراري على مواصلة النّظر من النّافذة ليتوقّف، من دون أن يقطع ذلك شهيّته في الثرثرة. حينئذ، استرجعتُ أيام الحَجر بحنين، لأنّ سائقي التاكسي صاروا حينها حكماء وصامتين، يأخذونك إلى وجهتك بلا تذمّر أو ثرثرة، لتصل خفيفًا إلى وجهتك.

أما الضّجيج الذي عاد الآن، فهو رخيص وغير مغر بالانسلال إليه؛ يبدو أنني سأتحوّل إلى كائن أفقي، يأخذ قهوته وشايه على السّطح، حيث لا حاجة لمكان آخر لالتقاط الهواء. كثير منّا لن يتركوا عادات الحَجر بسهولة؛ على الأقل المحظوظون الذين يملكون مساحات كافية في بيوتهم لخلق روتين جديد، أما الآخرون فانغمسوا في الحياة الاجتماعية بسهولة مخيفة. لقد كانوا يعدّون الأيام يومًا بيوم على ما يبدو. ولن يضحّوا بساعة واحدة خارج الحياة التي تسرقهم من البيت، كيفما كانت هواجسه: مادية في مساحته، أو معنوية في علاقتهم مع شركائهم في السّكن.

آثار الحَجر علينا كأُناسٍ تعلّموا الخوف من الخارج، من الآخر الذي قد يكون مصدر خطر حتى لو كان عزيزًا. والذين لم يروا مصابًا بالعدوى، أو أحد الذين كانت أضرارهم خفيفة منه، يظنّون أنها مؤامرة وإشاعة غبية، ويخترعون تفسيرات متطرّفة لما يعتبرونه أكبر مقلب عرفه البشر.

لن تتلاشى آثار الحَجر بسهولة على الكثيرين مع ذلك؛ فكم عدد الذين سيغيّرون منازلهم الآن بعد أن اعتبروا الأمر مسألة ثانوية؟ لا فرق في ذلك بين المنازل الإسمنتية والبشرية، فالذين تغاضوا عن عيوب أزواجهم/أزواجهن، سيبحثون عن مهرب، لئلّا يضطروا إلى عيش التجربة مرة أخرى. وما يُحيّر الإنسان العادي ليس هو أنه لا يدرك ما يأتي به الغد، بل ألّا أحد آخر يعرف ذلك، وكل هؤلاء الذين يكتبون أو يتكلّمون ليل نهار في وسائل الإعلام، لا يعرفون حقا ما سيحدث غدًا.

الخوف من المجهول، وأن يطيل الوباء وجوده الثّقيل بيننا، مع أننا عالقين مع حكومات لا تعرف ماذا تُقدّم أو تُؤخّر، فهي لم تستعد لامتحان مثل هذا، ولا لورطة رهيبة مثل هذه. حتى أهمّ ساسة العالم، الذين ترافقهم مؤسّسات كاملة في تدبير الوضع، يجدون أنفسهم في وضعية لا يحسدون عليها. هم ليسوا أقل خوفا منا، يتمّنون الخروج بأقل الخسائر. ويلعنون حظهم الذين جعل أكبر كارثة عالمية في العصر الحالي تحدث في عهدهم. في المغرب يقال للموظّف المسؤول: “الله يخرّج سْربيسَك على خير”، من باب التمنّي بأن تمرّ فترة تولي مهامه بخير من دون غلطة فادحة، أو زلّة لا وقوف بعدها.

قليل من القادة سيخرجون مرفوعي الرأس منها، والبقية سيتذكر التّاريخ -الذي لا ينسى- سوء تدبيرهم للأزمة. وماذا يفعل الناس أيها النّاس؟ أيدخلون أم يخرجون؟ أو يكتفون بما قالته بطلة رواية “الرّحالة “فجأة أعرف: “ما من أحد يستطيع أن يفعل شيئًا الآن”.

Loading...