يوسف خليل السباعي
كان رولان بارت قد تحدث سابقا عن موت المؤلف، ولكنه لم يكن يتوخى من ذلك إلا إعطاء، وبشكل مبسط، مكانة للقارئ. ولكن هذا التوجه كان آنذاك بخصوص النصوص الأدبية. أما إذا انتقلنا إلى حقل الفن التشكيلي، وهو حقل فني وجمالي شاسع جدا، هل بوسعنا الحديث عن موت اللوحة؟!… إنه أمر غير مستحب أبدا، بل إنه غير مفهوم. إن من ينادي بموت اللوحة كما لو أنه ينادي بطمس تاريخ اللوحات التي كان لها أثرها الكبير، وإلى اليوم.
إن اللوحة في المجال الفني والتشكيلي ليست شيئا، وليست منظرا، أو ألوانا فقط، وإنما هي روح، وفكر منبثقان من نسق ثقافي وفني للفنان أو الرسام، روح تسائل الذات والعالم، من خلال المحاكاة والتحوير والانحراف، ولكن أهمية اللوحة ليست في ما تمنحه لنا من روح، وفكر، عبر تشكيلية ما أو رسم ما بأدويةما ( من الأداة) وإنما بما سأسميه ب”التخييل التشكيلي” للفنان أو الرسام.
عندما يأتي أحد ما ويقول، من غير فطنة، إن اللوحة ماتت، فإنه لايكون جاهلا بتاريخ الفن فحسب، وإنما إنه يمارس التزييف، وقلب حقائق الأشياء، وكل مانقشته من حروف وكلمات السجلات التاريخية التي تؤكد استمرارية اللوحة في الحياة من خلال الصيرورة.
سأقف عند لوحتين للفنان التشكيلي محمد الجعماطي دون أن أحدد شكلانيتهما، حيث تحدثنا الأولى عن الحجر الصحي في المدينة بسبب فيروس كورونا، والثانية التي تحدثنا عن مدينة غريبة.
إن اللوحة الأولى تحدد لنا فراغ شارع بالمدينة (تطوان) بتلك البنايات والأشياء الأخرى من خلال تخييل تشكيلي، وليس كما هو الشارع في الواقع، ذلك أن متعة اللوحة في انحرافها، في زوغانها، وفي خلق فضاء مديني يبتعد كليا عن الأصل- الواقع. إن اللوحة الأولى تستعيد الأصل، لكنها تلغيه، وتخلق بديلا له تخييليا من خلال تشكيل بنايات شارع نعرفه، بالتأكيد، في تطوان، لكننا لانعرفه في اللوحة.
فليس الشارع التطواني كفضاء عام هو ذاته شارع لوحة محمد الجعماطي، إنه شارع في زمن الحجر، ولكنه حي بصباغته الزيتية داخل قماش، شكل لا واقع، سيمولاكر، لا أصل!
إن متعة هذه اللوحة الحية عند محمد الجعماطي ليست في موضوعة الحجر، وإنما في انحرافها، وخلق تخييلها الذاتي التشكيلي.
أما بخصوص اللوحة الثانية، فهي غريبة، وهي تعيدنا إلى زمن تاريخي ليس محددا زمنيا، ولكن بناياتها متباينة في الخط والشكل واللون والضوء، والمساحة الضيقة، إلا أن مايجعلها مختلفة عن اللوحة الأولى هو وجود شخوص.
إن كل بناية لها هويتها، إلا أن الاختلاف بينهما واضح، ومع ذلك ثمة غرابة في هذه اللوحة، شيءما غير مفهوم تخييليا وتشكيليا، الأمر الذي يجعل من اللوحة بخطوطها الهاربة وشخوصها فضاءا مدينيا مفتوحا على التفكير والتأمل والتساؤل والحلم كما هو حال السماء المزرقة بغيومها التي تهيمن على البنايات المرسومة!
إن محمد الجعماطي يجعل من فضاء المدينة شيئا حيا، لكنه منحرف وغريب، شأنه شأن العلاقة الجنسية التي لاتؤدي إلى الإنجاب. ومن هنا إبداعيته الفذة وحيوات لوحتيه.