جريدة (بين نهرين)، العدد 102، الخميس 13 كانون الأول/ ديسمبر 2018.
تحرير: ر. محمد. ر
سادت في عصر التنوير نزعة علمويّة تقدِّس الطبيعة وترى فيها خياراً ناجعاً بدلاً عن تقديس الماوراء أو المفارق.
والعلمويّة – بحسب ما يرى تودوروف – هي: “عقيدة فلسفية وسياسية نشأت مع الحداثة التي تنطلق من مقدمة مفادها أن العالم برمته قابل للمعرفة وللتغيير وفق الأهداف التي نرسمها لأنفسنا، وهذه الأهداف هي نفسها نابعة من معرفة العالَم” (روح الأنوار: ص 84).
وفي هذا السياق كان دينس ديدرو (1713 – 1784) – وهو من رجالات التنوير الأوروبي – يؤكد بأنه “ينبغي للقانون المدني ألا يكون سوى التعبير عن قانون الطبيعة” (افتتاحات فلسفة التنوير: ص 84)، وبحسب تمارا دلوكج فإن “الإنسان كائن يتحدّد بواسطة الطبيعة” (ص 67).
ولم تكن نزعة بمثل هذا المنحى لتمر من دون نقد جذري، لكنها مرّت ووجدت معادلاتها الموضوعية على صعيد إنتاج خطابها؛ فراح مركيز دي ساد (1740 – 1814)، وهو معاصر ديدرو، وكذلك إيمانويل كانط (1724 – 1804)، يخطف فكرة تقديس الطبيعة ليمضي بها إلى نهاياتها العدميّة من الناحية الأخلاقية والدينية؛ فلما “كان الهدم يمثل أحد القوانين الأولى للطبيعة، فلا شيء من أفعالنا نعمد فيه إلى الهدم يمكن اعتباره جريمة”، ولذلك كان ساد يخاطب قراءه: “لا يكونن لكُم من وازع غير ما تأمر به ميولكم، ولا قوانين غير رغباتكم فقط، ولا أخلاق غير أخلاق الطبيعة” (تودوروف: ص 85). ولنا أن ننظر بإمعان جم إلى ملفوظي “ميولكم” و”رغباتكم”، ومن ثم “أخلاق الطبيعة”.
الغرائزي والأهوائي
هذا الانغماس المتطرِّف في الطبيعة البشرية في جانبه الغرائزي والأهوائي المنحرف أدّى بالتنوير إلى انحراف أساء إلى ذاته وخطابه ووضعيته في تبدّياتها، وهو ما فعله دي ساد في حياته التي أرادها تكريساً عدمياً لكل القيم الأخلاقية واللاهوتية والجسمية والجسدية عندما دفع البشرية التي آمن بها على نحو منحرف إلى عيش البهيمية والاغتصاب والتعامل مع قذرات الجسم البشري تعاملاً مُتعي الحضور بلا هوادة ليكرّس بذلك نزعة سادية – ماسوشية (Sadomasochism) متداخلة ميّزت تجربته الحياتية؛ بل طالت منتوجه الأدبي الذي عُرف به في ذلك العصر فصوّره ببراعة مخياله مسرف التطرف، ويكفينا أن ننظر في عناوين مؤلّفاته على سبيل المثال: (ألين وفالكور) 1785، (أيام سادوم المائة والعشرون) 1785، التي صدرت في عام 1904، وترجمت إلى لغات عدّة، لكنها قُرئت في زمان دي ساد نفسه وتداولها بعض معاصريه منهم فلاسفة وأدباء ونقّاد ورجال تنوير؛ بل وحتى رجال تأويل ومنهم من عاصره مثل: فريدريش شلايرماخر (1768 – 1834)، ومن ثم عمله (أيام فلورييل أو الطبيعة المعرّاة)، وبالتالي (الفلسفة في المخدع) 1795، لنتبين تطلّعاته الإباحية مسرفة اللهو الفجوري والشهويات اللذويّة والدعارات الجنسية – كما جرى في “قلعة لاكوست” على سبيل المثال – والانتهاك الحسي والذاتي لكرامة الإنسان.
يعتقد تودوروف أن المركيز دي ساد يقدِّم روح التنوير بنحو أكثر تطرفاً لكونه “ردّ السعادة إلى المتعة الجنسية”، لا سيما أن ساد نفسه يقول: “لا تجعلنّ حداً لملذاتك إلا ما كان من قواك الذاتية وإرادتك” (ص 102). ولا شك أن التنوير الأوروبي كان يدعو الإنسان إلى استلهام قواه الذاتية والعقلية وبواعث أهوائه وإرادته، وكذلك قوى الطبيعة، ولم يكن في ذلك أي تطرُّف ولا انحراف مُعابين عليه، لكن المركيز دي ساد ركب موجة الانحراف وعمّق النزعة السادية (Sadism) على نحو متمادٍ حتى اشتق مذهب واسم هذه السادية من اسمه.
ولعلّ في الأمر في تجربة ذاتية عاشها هذا المسرحي والروائي الجريء، ومن ثم الثوري على الصعيد الشخصي؛ فكم اشتكين منه النساء؛ بل تذمّرن منه العاهرات المحيطات به أينما حل وارتحل منذ ستينيات القرن الثامن عشر؟ فكان الحس الفجوري الأنوي مؤدّاه الصارخ لقول صوته البشري وتطلّعاته الغريزية الحيوانية، ويكفينا أن ننظر إلى حمى الممارسة الجنسية عنده تلك التي تغزو مدركاته الحسية ومطاوي غرائزه على نحو مُهيمن في تصعيد سافر للأنا المتحرِّرة إلا من نزعاتها الجنسية المصاحبة للكثير من الانحرافات النفسية كالقسوة والسفح والمسخ والنظر إلى الجسد بوصفه بؤرة لذة فقط وانتهاج فاضح للتصفية الجسمية والإهانة الجسدية، فضلاً عن تكريس صور كثيرة من استبداد أهواء الذكور على الإناث، وتصوُر الحياة فقط بوصفها مخدعاً للممارسة الجنسية؛ بل تقديس هذا المخدع كما لو كان معبداً للإله النهائي.
لقد كانت تجربة دي ساد المعاصر للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تجربة انحرافيّة في عصر التنوير، ولو نظرنا إلى هذه التجربة مقارنة بتجربة كانط، على سبيل المثال، لتبين عندنا الحابل من النابل في الأولى حتى إن المتلقي، وعندما يطلع على تجربة المركيز دي ساد بوصفه ابناً لعصر التنوير الفرنسي يتبرم من هذا التنوير إذا كان يتنزل الإنسان فيه إلى مجرّد كائنية شهوانية غرائزية تحفل بقذارة الجسم البشري النسائي، كما الذكوري، وتتجرّعها كما لو كانت لذة ذكورية نادرة الجمال في معطياتها، إلا أننا معنيون بفرز هكذا تجربة مقارنة ببقية تجارب التنوير التي اتسمت باعتماد الطبيعة البشرية بغية الارتقاء بها إلى مصاف سمو الإنسانية لا إلى مُجرّد إنزالها نحو بشرية حيوانية يعجها الغرائزي على نحو فادح ومهين ورخيص.
رفاهية القصور
ولد المركيز دي ساد في أحد القصور، وكان ولداً جميلاً يلاطفه كل من يصادفه، وعاش حياة القصور والرفاهية الوديعة فيها منذ نعومته، ولكنه كان إذا لم يجد ضالة له فيما يريد يتحوّل إلى كائن منطو حقود يحدوه التبرم الخبث. وفي حدود أربعة عشر عاماً من عمره، بدا متسلحاً بثقافة جيدة من حيث تعلم اللغات، لا سيما اليونانية والإغريقية، وكان ميالاً بشغف للفنون المسرحية والتشكيلية، فضلاً عن مواهبه في المبارزة، ولهذا كان ضابطاً متفوقاً عندما التحق بالجيش والحروب التي مرّ بها.
وفي سنة 1754، أخذته قدماه إلى دور الدعارة والبغاء وقلاع عوالم العاهرات وشتى صنوف المهاترات بالجسد الأنثوي والذكوري معاً والخلاعة وتجريب كل الفجور مع النساء، وكانت رحلته إلى هذه العوالم قد امتدّت لعقود، لكنه وفي عام 1784 تم سجنه في (الباستيل) ليبدأ بكتابة أكبر نصوصه الروائية الفاجرة، ومنها (أيام سادوم) أو (مدرسة الخلاعة)، هذا النص الذي تأخرت ترجمته إلى “العربية” بما يزيد على مائتي عام حتى توافر عليها في بغداد الصديق جرئ الاختيارات “كامل العامري” ليترجمها عن الفرنسية بمراجعة “كرم غطوس”، وتصدر عن دار “الكا” في بلجيكا.
كرامة مهدورة
ويحدوني السؤال دائماً: هل تجربة دي ساد تنويرية وهي التي انغمست في تصوير الانحرافات البشرية بكل تنويعاتها الأكثر غرائزية صخباً؟ أقول: إن الانغماس المتطرِّف في البشرية، وتمثيل النزعة العلموية، وعبادة الطبيعة حدَّ الطبيعة، كان كل ذلك منتوجاً ظاهراً في عصر التنوير، لكن تقديس اللذة الجنسية على نحو سادي – مازوخي لم يمثل إلا انحرافاً في عصر التنوير، خصوصاً أن مثل هكذا انحراف كان قد تعرَّض إلى نقد من جانب بعض فلاسفة التنوير أنفسهم؛ فما تجربة مركيز دي ساد سوى معولٍ ذاتي سعى به هذا الشخص – ساد – إلى هدم كرامة الإنسان في الوجود وهو ما لم يرتضيه التنوير الأوروبي الذي كان يسعى لإعلاء كرامة الإنس في الوجود. لذلك اعتقد أن روايات ساد الإباحية هي الهدر الغرائزي الأعمى لكرامة الإنسان حتى إنها لا يمكن عدّها تكريسات لعصر التنوير الذي أعلى من كرامة الإنسان في إنسيته بالعالم.