بقلم: صفاء صنكور الصالح
في مناخ الإغلاق العام الذي نعيشه، استمتعت اليوم كثيرا بإعادة مشاهدة فيلم “الأخوات برونتي”للمخرج الفرنسي أندرية تشينيه (أحد مخرجي الموجة الثانية من نقاد كاييه دو سينما الذين تحولوا إلى الإخراج في سينما المؤلف، او ما يعرف ب ما بعد الموجة الفرنسية الجديدة)، وبعيدا عن قصة الفيلم وأهميته وطريقة تناوله المميزة لقصة الأخوات برونتي وشهرتهن الأدبية، وما يمكن أن أسميه نظرة فرنسية إلى الواقع الانجليزي وإبراز اختلاف الأخوات الثلاث مع مؤسسات الواقع المحيط بهن (مع تركيز خاص على مسار الحياة التراجيدي لشقيقهن الرسام الشاب الموهوب والحييّ الذي انتهى إلى مصير تراجيدي مع الإدمان على اللودانوم (أحد مشتقات الافيون)؛ بعيدا عن كل ذلك، يحلو لي هنا أن أتوقف عند لحظة ظهور نادر للفيلسوف الفرنسي رولان بارت أحد رموز الفكر البنيوي وما بعده ورواد السيميولوجي ممثلا في هذا الفيلم.
إذ يظهر بارت في مشهدين في الفيلم بدور الروائي البريطاني ويليام ميكبيس ثاكري، الذي دعم شارلوت برونتي كثيرا. (نقل المخرج القدير ستانلي كوبريك إحدى رواياته في أحد أجمل أعماله السينمائية ‘باري ليندُن’ ).
في المشهد الأول: (نحو الدقيقة ١٠٨، يظهر بارت مع مستر سميث (ناشر برونتي) متحدثا ببطء وبصوت رخيم عن ضرورة صقل الموهبة مشيرا إلى أن الحياة قصيرة جدا بالنسبة للفن وأننا نحتاج إلى الكثير من الزمن لنصقل القشرة “أو الصدّفة” التي تحيط بِنَا، (يشبه المبدع بأنه اقرب إلى كائن رخو يحتمي بصدفته”، وجعلها صلبة ومشرقة.لكنه يستدرك: قائلا إن الأمر الشيطاني هنا هو: إن القشرة عادة ما تكون مشرقة ونادرا ما تصبح صلبة”.
وفِي المشهد الثاني قبل مشهد النهاية: يظهر مع شارلوت برونتي (الممثلة ماري-فرانس بيزيه) في الحفل الذي اقيم بعد نشرها لروايتها جين آير، حيث تجلس إلى جانبه في مقصورته في دار الأوبرا بكوفنت غاردن، ليعيرها منظار الأوبرا وينظر إليها بطرف عينه بينما تذهب الكاميرا في حركة ترافلنغ على الحضور في المقصورات الأخرى. وهذه المرة صامتا من دون أي حوار عدا كلمة الترحيب في البداية، بينما تصدح موسيقى أوبرا “تانكريدي” للموسيقار الايطالي روسيني.
لقد ذهب البعض بعيدا في تفسير هذه المشاركة من بارت وقبله من الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي اشترك مع المخرج رينيه أليو في كتابة سيناريو فيلم “أنا بيير ريفيير……” (ساتوقف عند مشاركة فوكو وهذا الفيلم الذي شاهدته في المركز الثقافي الفرنسي وكتبت عنه مقالا نقديا مبكرا قبل انتشار البنيوية لدينا في ثمانينيات القرن الماضي)، فيعيدون اهتمامهما بالسينما، وتحديدا الشكل الميلودرامي، إلى محاولة منهما لاستثماره في تقريب الفرد المختلف وغربته عن المجتمع (ضمن اهتمامهما بالكوير ثيوري)؛ بل يذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك بوصفها نوعا من الحنين لاحياء النزعة الرومانتيكية في فرنسا بعد ١٩٦٨، التي سعى هؤلاء المفكرون إلى تفكيكها وتبديد أساطيرها.
وبصراحة، أميل هنا إلى تفسير بسيط بشأن مشاركة بارت السينمائية هذه ( فوكو سنتناوله لاحقا كما وعدت) يتمثل في أثر العلاقة الشخصية وهي هنا علاقة بارت بتشينيه، تلميذه وصديقه “الحميم” سابقا الذي أقنعه عبر علاقته الشخصية بالظهور معه في تجسيد دور روائي يقدره هو شخصيا وثمة درجة ما من الشبه بينهما.